الفصل الحادي والأربعون
ذكر فضائل الفقر
وفرائضه ونعت عموم الفقراء وخصوصهم وتفصيل قبول العطاء ورده وطريقة السلف فيه:
قال الله الكبير المتعال: (لِلُُقُقَرَاء المُهَاجرِينَ الذَّينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم) الحشر: 8، وقال تبارك وتعالى: (لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سبيل الله لاَ يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً في الأَرْضِ) البقرة: 273 فقدّم وصف أوليائه بالفقر على مدحهم بالهجرة والحصر، والله تعالى لا يصف من يحبّ إلاّ بما يحبّ، فلولا أنّ الفقر أحبّ الأوصاف إليه ما مدح به أحباءه وشرّفهم به، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفقر وأخبر بفضله في غير حديث؛ منها حديث إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار عن ابن عمران عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لأصحابه: أي الناس خير؟ فقالوا: موسر من المال يعطي حق الله عزّ وجلّ في نفسه وماله، فقال: نعم الرجل هذا وليس به، قالوا: من خير الناس يارسول الله؟ قال: فقير يعطي جهده؛ ومنها حديث بلال أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: إلقَ الله عزّ وجلّ فقيراً ولا تلقه غنياً، وفي الحديث الذي روي عن ابن الأعرابي: أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: لا أفضل من الفقير إذا كان راضياً، وفي الحديث الآخر: أنّ الله تبارك وتعالى يحبّ الفقير المتعفّف أبا العيال، وفي الخبرين المشهورين: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، والحديث الآخر: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين؛ فهذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفضيل الفقراء وإكرام لهم وتنبيه وحثّ على فضل الفقر، وروينا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجيعاً في الجنة ضعفاؤها.
وروينا في خبر إسماعيل النبي عليه السلام المفسّر لخبر موسى عليه السلام: أنّ إسماعيل قال: يارب أين أطلبك؟ فقال الله عزّ وجلّ: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، قال: ومن هم؟ فقال تعالى: الفقراء الصادقون، وقال أبو سليمان الدارني: الأعمال كلها في الخزائن مطروحة إلاّ شيئين، فإنه مخزون مختوم عليه لا يعطيه إلاّ من طبعه بطابع الشهداء، الفقر مع المعرفة، وكان يقول: تنفّس الفقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنيّ عمره كله،