قد عرضهم لتناول ما يكرهون، وقد دلس عليهم ما لا يعلمون، وأيضًا فإنه شيء قد قدّم لأجل الله تعالى فلا يصلح أن يستثنى ارتجاع شيء منه بمنزلة من يخرج الرغيف أو الشيء إلى السائل فيجده قد انصرف فكره أن يرجع فيه فيأكله، وقال: يعزله حتى يأتي سائل آخر فيدفعه إليه.
وكان بعض أهل الحديث إذا أكل مع إخوانه ترك من الطعام على رغيف يعزله معه وكان سيّار بن حاتم إذا حضر على مائدة أكل لقيمات، ثم يقول: اعزلوا نصيبي، وأكل ذات يوم على مائدة في جماعة فلما جاءت الحلوى نزع قلنسوته، ثم قال: اجعلوا نصيبي في هذه، فينبغي أن يعزل أنصبة أهل البيت قبل تقديم الطعام إلى إخوانه كيلا يحدثوا نفوسهم برجوع شيء منه فإنه مكروه لهم، ولعله لا يرجع شيء منه فيكون ذلك إحراجًا من الآكلين ومنقصة لهم؛ وهذا عليهم أشدّ من إكرامهم بالطعام، أن يكون ذلك مضرّاً بالأهل فيكون مضيعًا للأصل، ولا ينبغي له أن يقدّم إلاّ ما يحبّ أن يأكلوه من كل شيء أيضاً ومقدار الحاجة والكفاية من المأكول فيجمع بين السنّة والفضيلة.
روي في الخبر: ما رفع من بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلة طعام قط؛ هذا لأنهم كانوا مخلصين في كل شيء فلا يقومون إلا كفايتهم، ولا يأكلون إلاّ بعد جوعهم، ولا يتركون الأكل وفي نفوسهم منه شيء وللاقتصار الذي كان فيهم، ففيما ذكرناه من تقديم الكفاية لئلا يرد فضول الأطعمة موافقة للسنّة، وفي تقديم المأكول ليرجع أكثره نية حسنة، لما جاء فيه: أن من أكل ما فضل من الإخوان لم يحاسب عليه، ومن كان في جماعة فلا يأمر بتأخير الطعام فلعل فيهم من يحتاج إلى تقديمه إلا أن يتفقوا على تأخيره فلا يأمر حينئذ بتقديمه لأجل نفسه، وإذا حضر الطعام والصلاة فإنْ كانت نفوسهم تتوق إليه وفي الوقت سعة قدموا الأكل وإن كانت نفوسهم ساكنة أو ضاق الوقت أو خشوا أن يتطاول بهم الأكل صلّوا أوّلاً واستحبّ الأكل على الأرض، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى بطعام وضعه على الأرض وكان يأكل مقعياً على قدميه ويقول: لا آكل متكئاً، إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد، وربماجثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدمه، ونصب وجله اليمنى وهي جلسة العرب للأكل إلى اليوم، وإن أكلو على السفر فهو سنّة فيتزود لسفره، وخير الزاد التقوي، وأكره الأكل على الموائد العالية لأنهم كانوا يكرهون أن يعلون الطعام على الأيدي؛ وهذا محدث وليس من التواضع، قال أنس بن مالك: ما أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حوان ولا في سكرجة قط، قيل: فعلى ما كنتم تأكلون؟ قال: على السفر، وقيل: أول ما أحدثت الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ