اليوم هنيئاً بغير حساب، وقد قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبَوُا هَنِيئًا بِمَا أَسْلُفْتُمْ في الأيَّامِ الخَالِيَة) الحاقة: 24، فكأنهم أسلفوا ترك الشهوات لما تركوها، وقدموا الجوع والعطش في خلو أيامهم فاستقبلهم بالأكل والشرب، ويقال: لكل عمل جزاء في الآخرة من جنسه وبمعناه، وقال سري القطي: منذ ثلاثين سنة أشتهي أن أغمس جزرة في دبس وأنا أمنع نفسي، وكان أبو سليمان الداراني يقول: ترك شهوة من شهوات النفس أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة ذلك إيثاراً للتقلل وخفة للعدة من الطعام أو خشية الاعتياد للشبع، وسمعت أبا بكر بن الجلاء يقول: أنا أعرف إنساناً تقول له نفسه: أنا أصبر لك على طيّ عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تصبري على طيّ عشرة أيام، ولكن اتركي هذه الشهوة التي تشتهيها، وقال لي رجل: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فأخذ بجلد ذراعه وجعل يقول: جعت هذا الجوع كله؟ ولم يقل لي أترك الجوع، ولو قال لي: أتركه لعله كان يتركه، وقد كان رحمه الله قد ترك أكل الشهوات وأكل الخبز أيضًا ثلاثين سنة، وكان الجنيد رحمه الله يقول: يقوم أحدهم في صلاته فيجعل بينه وبين الله تعالى زنبيل طعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة، أو يسمع فهم الخطاب، ومثل البطن مثل الزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار، إنما حسن صوته لخفته ورقته، ولأنه أجوف غير ممتلئ، ولو كان ثقيلاً جالساً ممتلئاً لم يكن له صوت، وكذلك الجوف إذا خلا من الامتلاء كان أرقّ للقلب وأعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام، وروي عنه أنّ عتبة الغلام قل لعبد الواحد بن زيد: إنّ فلانًا يصف من قلبه منزلة لا أعرفها، قال: إن فلانًا لا يأكل التمر وأنت تأكله، قال: فأنا إنْ تركت التمر وأكله عرفت تلك المنزلة، قال: نعم وغيرها، فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه أبكى الله عنك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه عرفت صدق عزمه في الترك، هو إذا ترك شيئًا لم يعاود فيه أبدًا، وكان بعض أشياخنا ترك أكل الخبز الحار لأن كان يحبه ويشتهيه سنين كثيرة فعوتب في ذلك فقال: لو طمعت نفس في أكل الخبز عشرين سنة ما أطعمتها الساعة، وكان ربما يبكي من شدة شهوة نفسه وشدة عزم مجاهدته لاستشعار نفسه صدقه وحسن وفائه، فتيأس من شهوتها آخر الدهر، فكذلك كان يقع عليه البكاء للإياس من المشتهي، واعلم أنّ الشهوت لا حّد لها، ومثل القوة مثل العلم ذو حدود، فكم من شهوة دنية منعت رتبة علية، فإن لم تقطع الشهوات وتحسمها أحبّ ما كانت إليك أعطتك أرغب ما تكون فيها، فلا تقعد عن التوبة تنتظر آخرها، فإن النفس لا آخر لشهواتها إلى أن ترى الملائكة فعند ذلك تمحي صفاتها فتغيب الشهوات لأنها من أوصافها، فإن لم تترك الشهوات المعتادة فلا تعمل في مثلها من الزيادة بل يكون عملك في النقصان؛ فهو أقرب