قال ابن عباس: كلمة التوحيد لاشيء أحلى منها كشجرة طيبة وهي النخلة، وليس في الثمار أحلى من الرطب، ولذلك شبّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمن في حلاوته ولينه وقوته وثبات أصله بالنخلة، فقال: لا يسقط ورقها مثلها كمثل المؤمن، يقول سهل رحمه الله: إذا استغنيت عن الخبز بغيره من الطعم كان خيرًا لك؛ يريد أن أتوقف نفسك مع عادة فتنازعك إليه ا، وقد ذكرت هذه الحكاية لأبي بكر بن الجلاء فأعجبته، وقال: هذا كلام الحكماء، وكان هذا يلائم حاله، وإن خشي المريد أن يكون شيء من المآكل والطيبات له عادة ولم يأمن تألّه قلبه وتوقان نفسه إليه ومنازعتها إياه، وكان العبد مبتدئًا غرّاً لا يعرف خبء النفس ودواهيها ولايفطن لمكرها وآفاتها؛ فإن ترك ذلك أفضل.
فليتركه حينئذ لأجل الله خوفًا أن يشتهيه فيحرص على مثله، ويدخل مداخل السوء من أجله، ويبيع دينه فيه أو خشية تمكّن العادة فيه، فتعذر عليه التوبة لدخوله في الشبهات عند اعتياد الشهوات لأنّ العادة جند الله تغلب العقل، والابتلاء سلطان من سلطان الله تعالى يقهر العلم، لأجله تعذرت الاستقامة، ولولا العداوة لكان الناس تائبين، ولولا الابتلاء لكان التائبون مستقيمين، فليترك حينئذ أكل الطيّبات إذا صارت شهوات، وخشي منها مطالبة العادات، ودعاوي النفس بالآفات، ناويًا بذلك ما ذكرناه لصلاح قلبه، وتسكين نفسه، ليملك بذلك نفسه قبل أن تملكه، ويفطم عادتها قبل أن تهلكه، ويغلب بالترك طبعه وهواه قبل أن يكونا بالشهوة يغلبانه، كما قال بعض الحكماء: إن لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون أروح لنفسي، وكما قال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي، فيصير الترك حينئذ والمنع للنفس غذاء وعادة، كما كان الأخذ والأكل عادة، ففي هذا عون له على صلاح قلبه ودوام حاله، وكان إبراهيم بن أدهم يسأل أصحابه عن الشيء من المأكول فيقال: إنه غال، فيقول له: أرخصو هـ بتركه، وقال بعض الأدباء في معناه:
وإذا غلا شيء على تركه ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
وهو حينئذ تارك للشهوات لأجل الله تعالى وعامل من عمال الله؛ وقد كان هذا طريق طائفة من السلف إلى الله تعالى، ثم انقرضوا فانمحى طريقهم وخلف بعدهم خلف من العلماء ابتغوا الشهوات؛ ولم يقاموا في هذه المقامات ولاسلك بهم هذه الطرقات، فلم يتكلموا في ترك الشهوات؛ فلذلك درس هذا الطريق وعفا أثره لفقد سالكه وعدم كاشفه، فمن عمل به وسلكه فقد أظهره، ومن أظهر فقد أحيا أهله، حدثني بعض علمائنا عن بعض المريدين من أهل البصرة قال: نازعتني نفسي خبز أرزة وسمكاً فمنعتها فقويت مطالبتها فاشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، قال: فمات، فرأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: لا أحسن، أصف إليك ما يلقاني به ربي من النعيم والكرامة؟ وكان أول شيء استقبلني به خبز أرزة وسمكاً، فقال: كل شهوتك