أخلاقهم الأكل للعادة ولا تخيّر الأطعمة، ولا تعمّد الخبر خاصة دون غيره من المأكولات إذا سدّ الجوعة وقامت به البلغة، وكان أبو سليمان الداراني يقول: إذا عرضت لك حاجة من حوائج الآخرة فاقضها قبل أن تأكل، فما من أحد شبع إلاّ نقص من عقله، أو قال: تغير تقله عماً كان عليه، وكان يقول لأن أترك من عشائي لقمة أحبّ إليّ من قيام ليلة، هذا لإيثاره الجوع والتقلل على العباد مع التكثر.
وروينا عن وهب بن منبه وغيره أنّ عابداً دعا بعض إخوانه فقرّب إليه رغيفان فجعل أخوه يقلب بعض الأرغفة ليختار أجودها، فقال له العابد: من أي شيء تصنع؟ أما علمت أنّ هذا الرغيف الذي رغبت عنه ولم تقنع به قد عمل فيه كذا وكذا صانع، وظهرت فيه كذا وكذا صنعة؛ منها السحاب الذي يحمل الماء، والماء الذي يسقي الأرض، والأرض التي أنبتتت، والرياح، والبهائم، وبنو آدم حتى صار إلىك، ثم أنت بعد هذا تقلبه لا ترضى به؟ وقال الآخر زيادة في الخبر: إنّ الرغيف لا يستدير فيوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعاً وصنعة؛ أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس القمر والأفلاك وملكوت الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز، (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تَحْصُوها) إبراهيم: 34 والخبر المشهور: ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّّا من بطن فدل أنّ ما نقص من ملء البطن فذلك خير، ثم قال: حسب ابن آدم لقيمات يشددن صلبه، ففي قوله: لقيمات معنيان؛ التقلل والتصغير، لأن التاء تدخل للجمع القليل وهو ما دون العشرة من العدد، والمعنى الآخر هو التصغير لأن لقيمة تصغير لقمة، ثم قال: فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس، وفي لفظ آخر: وثلث للذكر، فدل أيضًا أنّ ملء البطن يمنع من الذكر وما منع من الذكر فهو شرّ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَالله خيْرٌ وَأبْقى) طه: 73، وقال: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقى) الأعلى: 17 ومعنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلث طعام أن يأكل شبعه المعتاد فيصير ثلث الشبع قوام الجسد باعتياد ثان، كما كان ملء البطن من الشبع هو العادة الأولى، وثلث الشبع هو ثمان أواق؛ فهذا على معنى الخبر الآخر: طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الانين يكفي الأربعة، ففي هذا خمسة أوجه، قال بعض علمائنا البصريين: طعام الواحد شبعاً يكفي الاثنين قوتاً، وطعام الاثنين