من صلاة الجماعة وغيرها فقد تقرر عندهم أنّ اجتناب معصية واحدة خير من عمل سبعين طاعة، فلذلك فارقوا فضول النوافل خشية دخول معصية واحدة عليهم، والجاهل بالله عزّ وجلّ يعمل في طلب الفضائل ولا يبالي بيسير الذنوب وفيها بعد من الله تعالى، وليس ذلك طريق المقربين، وقد تختلف النيات لاختلاف المقاصد فيصير ما كان بعداً قربًا بحسن النية وما كان حسنًا سيئًا لسوء النية به، من ذلك أنّ داود المحبر لما صنف كتاب العمل جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحًا ثم رده إليه فقال: ما لك؟ فقال فيه أسانيد ضعفاء فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد فانظر فيه بعين الخبر، إنما نظرت بعين العمل فانتفعت به، قال أحمد: رّده عليّ حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت بها، فردّه عليه فمكث الكتاب عنده طويلاً حتى اقتضاه إياه ابن المحبر، ثم رده عليه وقال: جزاك الله خيرًا، قد انتفعت به منفعة بينة، وقال الحسن: النية أبلغ من العمل، وقال: ابن آدم لا يهم بخير الآثار في قلبه منه نوران: فإن كانت الأولى لله عزّ وجلّ فلا تضرّ هذا الآخرة؛ يعني إن كان عنده الإخلاص في الخير في الهمة الأولى فلا تضرّه الوسوسة التي تخالجه بعد ذلك فإنها ضعيفة لا تحل قوة العقد ولا تحلّ محكم مبرمه، وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وحدثونا عن بعض الصوفية قال: كنت قائمًا مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمرّ به بعض إخوانه من الأبدال فساره بشيء، فقال أبو عبيد: لا، فمرّ كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أنْ أحج معه فقلت لا، فقال: ألا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية، وقد نويت أنّ أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله أتعرض لمقت الله تعالى لأني أدخل في عمل الله تعالى شيئًا غيره فيكون هذا عندي أعظم من سبعين حجة، ومن كان له في مباح نية ولم تكن له نية في فضيلة فالأفضل هو المباح، حينئذ وقد انتقل المعنى فصار المباح هو الفضيلة وصارت الفضيلة هي النقيصة لعدم النية، وهذا لا يعلمه إلاّ العلماء بباطن العلم وهو غوامض التصريف: مثل أن يكون رجل قد ظلم فله أن ينتصر وإن عفا كان أفضل إلاّ أنه له نية في الانتصار وليس له نية في العفو، فالانتصار هو الأفضل، ومثل أن تكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليتقوى بها على الطاعة ويريح بها نفسه لوقت آخر وليس له في الصوم ولا في القيام نية، فقد صار الأكل والنوم حينئذ هو الأفضل، وقد كان أبو الدرداء يقول: إني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونًا لي على الحق، وكل عمل مباح للعبد فيه نية فهو مأجور عليه، وكل عمل فاضل لا نية للعبد فيه فأحسن حاله السلامة منه لا له ولا عليه وربما كان مأزورًا فيه إذا دخلت عليه نية دنيا، وكان عمل مباح أو فضل ليس للعبد فيه نية فهو عقل لا شيء له فيه، ولكنه يسأل عن فراغ