الناس شرك، وتركه لأجلهم رياء، وترك العمل لأجل دخول الآفة فيه جهل، وتركه عند دخول العلّة عليه ضعف ووهن، ومن دخل في العمل للّّه تعالى وخرج منه لله تعالى لم يضرّه ما كان بين ذلك بعد أن ينفيه ولا يساكنه، وقد يضرّه ما يكون بعد ذلك: مثل إن كان سرّاً فأظهره بعد زمان فصار علانية فنقل من ديوان السرّ إلى ديوان العلانية، ومثل أن يتظاهر به ويفتخر ويدل به ويتكبر فيحبط ذلك عمله لأنه قد أفسده، والله لا يصلح عمل المفسدين، ومن دخل في العمل لله تعالى ودخل عليه في وسط العمل علة فخرج من العمل بها بطل عمله، ومن دخل في العلم بآفة وخرج منه بصحة سلم له عمله وجبر بآخره أوّله، وأفضل الأعمال ما دخل في أوّله لله تعالى وخرج منه بالله تعالى، ولما تطرقه فيما بينهما آفة فيكون الله تعالى هوالأول فالآخر معه وعنده، ثم يظهره بعد ذلك ولا يتظاهر به، وأفضل النيات أن لا تريد بعملك إلاّ وجه الله تعالى وحده تعظيمًا لحق الربوبية وإلزامًا للنفس وصفُ العبودية، فإن لم يكن هذا المقام عن مشاهدة وجه ذي الجلال والإكرام فمشاهدة ما رغب فيه وشوق إليه من الآخرة عن مقام الرجاء، ولا ينبغي للعبد أن يدخل في شيء حتى يعلم علمه فيكون داخلاً في علم يعلم مثله، لأن لله سبحانه وتعالى في كل شيء حكمًا، فما علم من ذلك حمد الله تعالى عليه وعمله، وما جهل سأل عنه من هو أعلم به، وما أشكل عليه أمسك عنه حتى يستبين له وجهه فيقدم عليه أو يتركه، وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله تعالى تقريباً إليه لأجل الله تعالى، فهذا أعلى النيات وهو غاية الإخلاص.
ومن أراد بأعماله ما عند الله تعالى من ثواب الآخرة من حظوظ نفسه ومعاني شهواته ولذته من النعيم في الجنان، واتخاذ الحور الحسان، مما وصف الله تعالى وندب، لم يقدح ذلك في إخلاصه ولم يغير صحة نيته من قبل أنّ الله تعالى مدحه ورغب فيه ووصفه، وكان ذلك مزيد مثله، إلاً أنّ هذا نقص في مقام المحبين وعيب عندهم كعيب من عمل لعاجل حظه من دنياه، وهو شرك في إخلاص الموحدين الذي اختصوا بالعبودية، فعتقوا من أسر الهوى بالحرية، فلم يسترقهم سوى الوحدانية لما شهدوا من خالص الربوبية، وإخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة ضرورة، إلاّ أنّ من رزق المقام منها دخل بحقيقة لإخلاص المعاملة ضرورة، فلا ينقيه ولا يصفيه عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين؛ وهذا مقام المحبين، وإنما أتعب المريدين بالتنقية والتصفية للمعاملة لما بقي عليهم من الشرك الخفي والشهوة الخفية، كما أتعب خدام الدنيا بالجمع لها لما استرقهم من الهوى فأما الأحرار فهم من خدمة الخلق برآء؛ وهذا يذهب الإخلاص ويفسد النية ويدخل الانتقاص، وما تلف له من شيء أو ظلم من حقه فلينوِ بذلك لذخر عند الله تعالى وليجعله في سبيل اللّّه بحسن ظنه بالله تعالى وصدق يقينه فإن له من ذلك ما نوى.