وروينا عن بعض العلماء من القدماء أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى بعض الصديقين: أن لي عباداً من عبادي يحبونني وأحبهم ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ويذكرونني وأذكرهم وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا ربّ وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلام بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ويحنّون إلى غروب الشمس كما تحن الطيور إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا لي بأنعامي، فبين صارخ وباكٍ ومتأوّه وشاكٍ وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعيني ما يتحملون لأجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي، أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات السبع والأرض وما فيهما من موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه، وقال مالك بن دينار: إذا قام العبد يتهجّد من الليل ورتل القرآن كما أمر قرب الجبار تعالى منه قال: وكانوا يرون أن ما يجدون في قلوبهم من الرقة والحلاوة والفتوح والأنوار من قرب الرب تعالى من القلب، وفي الأخبار من الجبّار عزّ وجلّ: أي عبدي أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أذن الله لشيء إذنه لحسن الصوت بالقرآن يعني ما استمع إلى شيء كاستماعه إليه، وفي الحديث الآخر لله أشد أذناً إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته وأهل اللهو في غفلة عمّا أهل الآخرة فيه وفي عمى عمّا ينظر هؤلاء الحاضرون إليه وكأين من آية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون بل قلوبهم في غمرة من هذا، وطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، يقال إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة كانت له مسورة من أدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى القيام وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إليّ من أن أرى فيه وسادة يعني لأنها تدعو إلى النوم، وقال رقبة بن مسقلة: رأيت رب العزة تعالى في النوم فسمعته يقول: وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة، ويقال إنه كان مذهبه أن النوم إذا خامر القلب وجب الوضوء.
ومن اشتهر بإحياء الليل كله وصلّى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة أو ثلاثين سنة حتى نقل عنه ذلك أربعون من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم المدنيان وفضيل بن عياض ووهيب بن الورد المكيان وطاوس ووهب بن منبه اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم بن عيينة الكوفيان وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان وأبو عبد الله الخواص وأبو عاصم العباديان وحبيب أبو محمد وأبو جابر