أوقفني بين يديه فقال لي: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك، فقلت: ياسيدي، مارأيت شيئاً أستحسنته فأسألك إياه، فقال: أنت عبدي حقّاً، تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ذكر أشياء، قال يحيى بن معاذ: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه، فقلت: ياسيدي، ولم لاسألته المعرفة به، وقد قال: سلني ماشئت، فصاح فيَّ صيحة وقال: اسكت، ويلك غرت عليه مني، وقد كان أبو تراب النخشبي رحمه الله معجباً ببعض المريدين، فكان يؤويه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجيده، فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد، فقال المريد: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وجد المريد فقال: ويحك ماأصنع بأبي يزيد، قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد، قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت له: ويلك لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة، كان أنفع لك من أن ترى الله عزّ وجلّ سبعين مرة، فبهت المريد من قولي وأنكره وقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: ويلك، إنما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره، قال: فعرف ما أقول فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره يخرج إلينا من النهر، قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره، فقلت للفتى: هذا أبو يزيد فانظر إليه قال: فنظر إليه الفتى فصعق، فحركناه فإذا هو ميت، قال: فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد: ياسيدي، نظره إليك قتله؟ قال: لا ولكن كان صاحبك صادقاً وأسكن قلبه سرّ لم يكن ينكشف له بوصفه، فلمّا رآنا كشف له سرّ قلبه فضاق عن حمله لأنّه في مقام الضعفاء المريدين فقتله ذلك، فهذه جمل من أوصاف المحبوب المزاد، ورزق بغير حساب من المحب الجواد، بتيسير من الطالب للمطلوب وعناية من المحب للمحبوب، ومقام الحبيب أعز من أن يظهر وأخفى من أن يعرف، غيرة من عليهم سترهم بأفعالهم وضناً منه بهم حجبهم بأوصافهم، أهل المقامات يشتاقون إليه وهو يشتاق إليهم، وأهل القرب ينظرون إليه وهو ينظر إليهم، وأهل المحبة يحبون أن يسمعوا كلامه وهو يحب أن يسمع كلامهم، وأهل الأحوال يسألونه وهو حسبهم ويحب أن يسألوه، وأهل المشاهدات يزورنه وهو في قلوبهم يزورهم، وأهل الآخرة ينظرون إليه في الآخرة وهو ينظر إليهم في الدنيا، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما ذكرنا في قصة داود الملك الرسول؛ إذ أرسله الملك الجليل إلى أحبائه الأربعة عشر الأولياء أن يسألهم أن يسألوه حاجة، فلما رأوه نفروا منه لئلا يشغلهم عنه، فذكرناها قبل هذا فلا تنكرن من هذا شيئاً فإنه يعطي المحبوب في الدنيا أول عطاء أهل الجنة في الآخرة؛ وهو: كن، فيزهدون في ذلك لأجل بقائه ويكرهون ذلك لحبه، قد جاوزوا معارف من سواهم، فإذا أعطاهم كن أمرهم أن يقولوا: كن في أمر الساعة ولا يقولوا: كن في كشف الغطاء عن النيران والجنان، وما وراءها من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015