المحبة لم يغبط بدرك شيء، وقد قيل في قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق: 3، إن الهاء عائدة على التوكل أي فالتوكل حسبه من جميع المقامات والتوكّل حال من مقام المحبة.

وقد قال الله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أكْبَرُ) ، والرضا مقام من المحبة فقد جلّت المحبة أن توصف ودقت عن العلوم بالعقول أن يعرف مثلها مثل العلم باللّّه؛ فكذلك أي قلب أجلّ من قلب يكون محبوبه الله، ولا أعلم من معلومه الله، وقيل: إن للقلب حبة هي باطنه عليها يتعلق، المحبة، ومنه سمّيت محبة؛ كان اشتقاقه من حبة القلب وهي التي يقال لها سويداؤه، والميم في الأسماء قد تزاد للمبالغة في الوصف، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ: (قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً) يوسف:، 3 لما وصفها بنهاية الوصف في الحبّ؛ أي قد خرق حبه شغاف قلبها فوصل إلى حبة القلب، وخرق الشغاف وهو حجاب القلب، وحبّاً منصوب على التفسير كأنّه قيل: قد شغفها أي خرق شغافها، فقيل: ماذا؟ فقيل: حبّاً، فالحب إذا وصل إلى هذا الموضع من العبد لم يملك المحبّ نفسه، ففرغ قلبه له، وامتلأ به، ولم يجر على ترتيب ما رسمناه، وربّما خرج إلى الوله والاستهتار وجاوز معيار العقل في التصريف والأذكار، والعرب تقول: قد دمغه وأرأسه وقاده وركبته، كذلك قولهم أشغفه إذا أصاب شغاف قلبه فهتك حجابه وقد قرئت بالعين، ومعنى قد شغفها بلغ أعلى القلب ونهايته لأن الشغف أعلى كل شيء وأبعده، فالمعنى ذهب به الحبّ أقصى المذاهب وغايته، فحينئذ يملكه الحبّ فيكون أسيره، ويغلب عليه الحبيب فيصبر مأسوره فيحكم عليه ولا يجاوز، ويفرغ له قلبه من كل شيء رسمه، ويمتلئ به فلا يبقى فيه شيء رسمه، ولا يقدر على الكذب لظهور سلطان قهر الحبّ، فحينئ يكشف قناعه ويرسل عذاره فيه ويصفه الحبّ بالحبّ وهو صامت بخيفة المحبّ إلا لمن أحبّ، وهو ظاهر، وليس يكون هذا إلا في مقام شكر وحال عليه، فمن لم يعرف هذا المقام أنكر هذا الكلام إلا أن يربط قلبه بتأبيده ويحفظ سرّه بتمكينه كما قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ) القصص: 10 أي من المصدقين إنّا نرده إليها ولا تظهر أنه ابنها فيقتل، وكما لطف للفتية الذين آمنوا وهم أصحاب الكهف لما غلب حبّ الإيمان على قلوبهم، إذ قاموا فقالوا: ربّنا ربّ السموات والأرض لئلا يظهروا إيمانهم لما غلب حبه عليهم فيقتلوا؛ فهذه لطائف الحكيم وخفي صنع العليم، فالمحبون له حافظون للغيب بما حفظ، وقال سمنون لبعض الفقراء في قصة ذكرها يفرح بحبه ويذكر المحبة، وقال بعض الناس في وصف المحبين أقامهم مقام المحبة فلم يزن الملك في قلوبهم حبة فمحبة غير الله في محبة الله شرك عند المحبين؛ وهي خيانة عند بعضهم، وهو من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015