منه، وهو أم الكتاب الذي استنسخ منه هذه الصحيفة، فكان يقينه يكتب رزقه في اللوح، وأنه لا يزاد فيه بحول ولا حيلة ولا ينقص منه لعجز ولا سكينة، كيقينه بما كتب فيه من أنه من أهل الجنة فهو داخلها لامحالة، وإن عمل أي عمل بعد أن يكون قد كتب اسمه في اللوح وجعل له فيها أثر كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِْثُهَا عِبَاديَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء: 105 فقد كتبت الآثار والأرزاق من كل شيء كتباً واحداً في ثلاث مواضع، توكيداً للعلم وتسكيناً للقلب في القسم، كتب ذلك في الذّكر الأول وهو اللوح المحفوظ ثم في الزبر الأولى وهي الصحف، ثم أنزل ذلك في كتابنا هذا الذي به عرفنا ما سلف من ذلك، وإن علت مشاهدة كل عبد عن مقامه ومن معبوده ومن مكانه في دنوّه وعلوّه يشهد هذا الذي ذكرناه معلوماً في علم الله تعالى قبل خلق اللوح، فسكن قلبه واطمأن إلى علم الله سبحانه وتعالى وما سبق له منه، ولهذا جاء في الأثر أن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن يكون ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك، أي فيقلّ حرصك لنفاذ شهادتك ويذهب في الخلق طمعك؛ فهذا هو الرضا والزهد، فقد جمع التوكّل المقامين معاً، فما في يد الله سبحانه وتعالى هو رزقك الواصل إليك، لا شكّ فيه على أي حال، وهو الذي لك عند الله، وهو معلوم علم الله تعالى الذي لا ينقلب، وذلك أحد ثلاثة أشياء: ماأكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فهذا هو الذي لك في الدنيا والآخرة.
ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول ابن آدم مالي تعجّب من جهل ابن آدم وغفلته، ثم قال: إنما لك من مالك، فذكر هذه الثلاث واشترط مع كل واحدة آخر غايتها فقال: ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، فاشترط الإفناء والإبلاء والإمضاء، ثم قال بعد ذلك: وما سوى ذلك فهو مال الوارث، فهذه الثلاث على هذه الأوصاف هي رزق العبد، وهي التي في يد الله عزّ وجلّ له، الواصلة إليه، فأما ما جعله في يد العبد فقد لا لايكون له، وإنما هو مستودع إياه ومستخلف فيه، وإن تملّكه وحازه خمسين سنة وإنما للعبد ما فرغ منه العبد وهو الذي فرغ له منه لما سبق له به، فإن تملّك سوى هذا وادّعاه لأجل أنه في خزانته، أو قبض يده فذلك لجهله بالله تعالى وقلة فقهه عن الله سبحانه وغفلته عن حكمة الله تعالى في أرضه، يودعها من يشاء إلى الوقت الذي يشاء، حتى يستقرّ إلى كيف يشاء، فقد قال تعالى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ) الأنعام: 98 وقال: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) الأنعام: 67 وقال سبحانه: (وَخَزَائِنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) الأنعام: 7 وهكذا