التدبير فيما بقي وما يأتي بعد أي لا تشتغل بالفكر فيه بعقلك وعلمك فيقطعك عن حالك في الوقت الذي هو ألزم لك وأوجب عليك حتى قطعك فيما يأتي من الأحكام.
والتصريف في ترك التدبير والتقدير لها بالزيادة والنقصان، أو نقلها من وقت إلى غيره أو من عبد أي آخر، بالتقديم والتأخير، تكون في ذلك كما كنت فيما قد مضى، ألا ترى أن الإنسان لا يدبّر ما قد مضى؟ قال: فينبغي أن يكون فيما يستقبل تاركاً للتدبير له، تاركاً للأماني فيه بمعاني ما ذكرناه، كتركه إياه فيما مضى، فيستوي عنده الحالان، لأن الله أحكم الحاكمين، ولأن العبد مسلّم للأحكام والأفعال، راضٍ عن مولاه في الأقدار، مع جهله بعواقب المآل، وترك التدبير بهذه المعاني هو اليقين، واليقين هو مكان المعرفة، إذ جعل الله تعالى قلب الموقن مكاناً يمكن فيه على قدر المكان ما يليق به، وكان يقول: يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم قلت أنا وأنا كن فيما أنت الآن كما لم تكن، فإنه هو اليوم كما كان، وكان يقول أيضاً: الزهد إنما هو ترك التدبير، فهذا يعني به ترك الأسباب التي توجب التدبير، وإخراج السبب الذي يجب تدبيره لا أنه يكون مسبباً متيقناً للأسباب وهو ترك تدبيرها، لأن التدبير في هذا الموضع إنما هو التمييز والقيام بالأحكام ووضع الأشياء مواضعها، فكيف لا يكون العبد كذلك مع وجود الأشياء وهو عاقل ممّيز متعبّد بالعلم مطالب بالأحكام؟ وإنما يقول: اترك الأشياء المدبّرة وازهد في الأسباب المميّزة حتى يسقط عنك التدبير والتقدير، فيكون بتركها تاركاً للتدبير بسقوط أحكامها عنك، واستراحتك من القيام بها، والنظر فيها؛ فهذا هو تفصيل جملة قوله في ترك التدبير، وهذا هو حال المتوكّلين، والمتوكّل لا يهتمّ بما قد كفي كما لا يهتمّ الصحيح بالدواء إذا عوفي، ولكن قد يحتمي قبل النزال كما يحتمي المعافى قبل ورود العلل.
قال الله سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى الله رِزْقُِهَا) هود: 6 (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) العنكبوت: 60 فالمتوكل قد علم بيقينه، إذ كل ما يناله من العطاء من ذرّة فما فوقها، أن ذلك رزقه من خالقه، وأن رزقه هو له وأن ما له واصل إليه لامحالة على أيّ حال كان، وإن ما له لا يكون لغيره أبداً، وكذلك ما لغيره من القسم والعطاء لا يكون لهذا أبداً، فقد نظر إلى قسمه ونصيبه من مولاه بعين يقينه الذي به تولاّه من إحدى ثلاث مشاهدات، وإن دنت مشاهدته نظر إلى قسمه من العطاء في الصحيفة التي كتبت له عند تصوير خلقه، فكتب فيها رزقه وأجله وأثره، وشقيّ أو سعيد، فكما لايقدر أحد من الخلق أن يجعله سعيداً إن كان قسمه شقيّاً، فلا يقدر أحد أن يجعله شقيّاً إن كان قسمه سعيداً، كذلك لا يقدر أحد أن يمنعه ما أعطاه مولاه من القسم، فيجعله محروماً، ولا يعطيه ما منعه من الحكم فيجعله مرزوقاً، لأن ذلك قد كتب كتباً واحداً وجعل مجعلاً سواء، فإن ارتفعت مشاهدته نظر إلى هذا في اللوح المحفوظ مفروغاً له