ويوهن إيمانهم الذي هو الأصل، ويستأسر قلوبهم التي هي المكان للكشف والشهادة، فيخسروا رأس المال فتفوتهم حقيقة الحال، فماذا يرتجون وبأي شيء يقومون؟ وهذا لا يفطن له إلا العاقلون ولا تشهده العيون.
وقد قال بعض المقرّبين في حقيقة التوكّل لما سئل عنه فقال: هو الفرار من التوكّل يعني ترك السكون إلى المقام من التوكّل؛ أي يتوكّل ولا ينظر إلى توكّلهم إنه لأجله يكفى أو يعافى أو يوقى، فجعل نظره إلى توكله علّة في توكّله يلزمه الفرار منها حتى يدوم نظره إلى الوكيل وحده بلا خلل، ويقوم له بشهادة منه بلا ملل، فلا يكون بينه وبين الوكيل شيء ينظر إليه، أو يعوّل عليه، أو يدلّ به، حتى التوكّل أيضاً الذي هو طريقه.
وكذلك قال قبله بعض العارفين في معنى قوله عزّ وجلّ: (أَمّنْ يُجِيبُ المُضْطَّرَ إذا دَعاهُ) النمل: 26، فقال: المضطّر الذي يقف بين يدي مولاه فيرفع إليه يديه بالمسألة فلا يرى بينه وبين الله حسنة يستحق بها شيئاً، فيقول: هب لي مولاي بلا شيء فتكون بضاعته عند مولاه الإفلاس، ويصير حاله مع كل الأعمال الإفلاس، فهذا هو المضطر، فهؤلاء القوم من الذين وصفهم الله عزّ وجلّ بالتقوى والمخافة، وجعلهم أهلاً للدعوة والنذارة، وأخبر أنهم لا يرون بينه وبينهم سبباً يليهم ولا شفاعة فقال تعالى يأمر رسوله بإنذارهم بكلامه فجعلهم وجهة لخلقه ومكاناً لكلمه، كما جعل رسوله وجهة لهم ومكاناً لتكليمهم، فقال تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذينَ يَخَاْفُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الانعام: 51 ثم قال تعالى في وصف أمثالنا من أهل اللعب واللهو والغرّة والسهوة متهددّاً لنا متوعداً: (وَذَرِ الَّذينَ اتَّخَذُوا دينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحيَاة الدُّنْيا) الانعام: 70 وقيل لبعض علمائنا: ماالتوكل؟ قال: التبرّي من الحول والقوّة؛ والحول أشدّ من القوّة، يعني بالحول الحركة، والقوّة الثبات على الحركة، وهو أوّل الفعل، يعني بهذا لا ينظر إلى حركتك مع المحرّك إذ هو الأول ولا إلى ثباتك أيضاً بعد الحركة في تثبيته إذ هو المثبت الآخر فتكون الأولية والآخرية حقيقة شهادتك له به أنه الأوّل الآخر بعين اليقين؛ أي فعندها صحّ توكّلك بشهادة الوكيل، وقال مرة: التوكّل ترك التدبير، وأصل كل تدبير من الرغبة، وأصل كل رغبة من طول الأمل، وطول الأمل من حبّ البقاء؛ وهذا هو الشرك يعني أنك شاركت الربوبية في وصف البقاء، وقال: الله سبحانه خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه، وإنما جعل حجابهم تدبيرهم، وقد كثر قوله رحمه الله في ترك التدبير، وينبغي أن يعرف مامعناه، ليس يعني بترك التدبير ترك التّصرّف فيما وجّه العبد فيه وأبيح له، كيف وهو يقول: من طعن على التكسّب فقد طعن على السنّة، ومن طعن في ترك التكسّب فقد طعن على التوحيد، إنما يعني بترك التدبير ترك الأماني، وقوله: لمَ كان كذا؟ إذا وقع وِلِمَ لا يكون كذا؟ أو لو كان كذا فيما لايقع، لأن ذلك اعتراض وجهل بسبق العلم، وذهاب عن نفاذ القدرة وشهادة الحكمة، وغفلة عن رؤية المشيئة وجريان الحكم بها، ويعني ترك