الذي يُجَرِّدُه العقاد من القدرة على فهم النفس البشرية1, الأمر الذي يتنافى مع اتجاه "التعقيل".
ولعلَّ في ذلك ما يضيف إلى أسباب نقد طه حسين للمنفلوطي في بيئة التكوين سببًا عامًّا يشترك فيه مع العقاد والمازني؛ لأنه يرتبط بعناصر التطوّر الفكري والأسلوبي، وينزع إلى التجديد الذي يتلاءم مع البيئة الجديدة، وبالقياس إلى طه حسين, فإنه يروض قلمه على التعبير حتى مرن هذا القلم, وأكسبه هذا المران خصائص جديدة تختلف عن تلك الخصائص التقليدية التي تَعَرَّفْنَا على شيء منها في محاولاته الأولى، فما يلبث أن يعدل عن السجع, وتتسع فكرة الموضوع في مقاله، الأمر الذي يؤثِّرُ على أسلوبه في التعبير، فيتجه إلى السهولة والبساطة بعد أن كان يغرق في الغريب من اللفظ. فثم نجد موضوعًا لمقاله, وفكرة يصدر عنها, وثمَّ نجد أسلوبًا يتفرّد به هذا المقال، يتَّسِمُ بطابعٍ جديد بعد اتساع ثقافته، على أن هذا الطابع الجديد يجيء ثمرةً للبيئة الصحفية التي أتمَّ فيها طَوْرَ التَّكْوين، وهو في هذا الطَّوْرِ معنيٌّ بإبراز شخصيته، يسعى على تجلية موضوعه، الأمر الذي يجعل وضع حدود فارقة بين المقال الذاتي والمقال الموضوعي في هذه المرحلة ليس من السهولة بمكان، ولكنهما أخيرًا ينبعان من مَنْبَعٍ واحد، وهو رغبته الملحَّة في التعبير عن أفكاره وتأمُّلاته وموضوعاته. على أنَّ اتصال طه حسين بالثقافة الأجنبية عن قُرْبٍ، أتاح لعناصر الأصالة وعوامل التجديد أن تحدد هذه الحدود الفارقة بين المقال الذاتي والمقال الموضوعي، وتنوُّعِ فنون المقال الموضوعي في صحافته بعد انتقال السياسة المصرية والحياة المصرية إلى طورٍ جديد بعد ثورة 1919، ويتمثَّل لنا المقال الصحفي فنًّا أصيلًا في مزاج جيله، له في أدبنا تقاليد مكينة، كما يبين من دراسة مصادره في القديم والحديث، كما يتمثَّل فنًّا جديدًا يقوم بمقتضيات الوسيلة الجماهيرية الحديثة، وما تلبث عناصر الأصالة أن تتوازن مع عناصر التجديد، فيتحوَّل مقاله من "النثر الفني" إلى الملاءمة بين العصر والبيئة, فتطوّر فن المقال في ألفاظه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته, ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، في مواجهة الوظيفة الاجتماعية العملية للفنِّ الصحفي الحديث, وانتقل طه حسين بمقاله من التقليد إلى التجديد، ليعالج المقال الافتتاحي أو الرئيسي، والعمود الصحفي، واليوميات الصحفية، وليبتدع فنونًا جديدة يؤصِّلُها في لغتنا العربية، كما سيجيء. يعالج من خلالها "السياسة والحياة اليومية ويتعرَّض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها يُفَرَّغُ للأدب الخالص"1.