بالدرجة الأولى، لا يأخذون أنفسهم بأن يكتبوا "كما كان يكتب ابن المقفع والجاحظ وغيرهما من الكُتَّاب القدماء"1, وإنَّما يصطنعون من الأساليب ما يُلائم قلوبهم وأذواقهم وعقولهم الحديثة من جهة, وما يلائم حاجاتهم وما تثير هذه الحاجات في نفوسهم من العواطف والخواطر والآراء"2. وعلى الرغم من ثورتهم هذه لم يُفَرِّطُوا في القديم, وإنما "يحفظونه ويمضون في إحيائه، يَرَوْنَه من كنوزهم النفيسة التي لا ينبغي التقصير في رعايتها وحمايتها وصيانتها من الضياع والفساد جميعًا"3. يصلون بين القديم والجديد ويلائمون بين "ما كان وما هو كائن، ويحاولون أن يلائِمُوا بين هذا كله, وبين ما سيكون في مستقبل الأيام"4، ذلك أن أبناء هذا الجيل كانوا يدركون أن "الحضارة الإنسانية ثورة متصلة مظهرها الأدب والفن"5، وأن "الأمَّة العربية الحديثة لم تنشأ من غير شيءٍ, وإنما نشأت من أمة قديمة"6، وأن "الأمة الحية هي التي تساير الزمن وتتأثر بالأحداث تأثُّر من ينتفع بها ولا يفنى فيها, وأن تتطوَّرَ حسب ما تُمْلِيه الظروف"7, ولكنهم -كما يقول طه حسين- كانوا يرون أن "قدماء العرب قد أخطأتهم فنونٌ من الأدب لم ينشئوها؛ لأنهم لم يعرفوها, وأنَّ على المحدثين بعد أن عَرِفُوا هذه الفنون أن يوطِّنُوها في أدبهم بأن يؤصلوها في لغتهم, وأن يشاركوا فيها, ويسهموا في تنميتها وتطويرها كما يفعل أصحابها من الغربيين"8.
ومن هذه الفنون الجديدة: فنّ المقال الصحفي، الذي يرتبط بوسيلةٍ جماهيرية حديثة لم تعرفها العصور القديمة، فكان على أبناء هذه المدرسة التجديدية أن يرسوا دعائمه في لغتهم، بحيث يتميِّزُ عن فنِّ المقال الأدبي الذي عَرِفَت اللغة العربية أصولًا له، من حيث الوظيفة والموضوع واللغة والأسلوب جميعًا, ذلك أن المقال الصحفي يهدِفُ أساسًا إلى التعبير عن "أمور اجتماعية وأفكار عملية"9، ويقوم على "وظيفة اجتماعيةٍ خالصةٍ تتقَدَّم أية ناحية أخرى كالمتعة الفنية على سبيل المثال"10.
وقد تمثَّل طه حسين، هذه الحقيقة، فوضع المقال الصحفي في مكانه من فنون القول، يخضع لنواميسه العامة والخاصة، وينفرد دونها بالوسيلة التي يصطيعها، وهي الكلام المدوَّن في الاتصال بالجماهير. ويبدأ فنُّ المقال الصحفي من الوقوف عند الشكل، والكَلَفِ بالتجزئة، واقتضى هذا بطبيعة الحال "إلغاء بلاغة العَجَمِ القديمة المتحَجِّرَة, والعود إلى بلاغة العرب المعتمدَة على الحسِّ اللغوي الصادق والذوق الفني السليم"11.
وقبل أن نتحدث عن البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير، نرى من الأوفق أن نعرض لامتداد التيار القديم في النهضة الصحفية، في مقالات طه حسين الأولى، بين التقليد والتجديد.