وأوَّل مظاهر ذلك أنَّ المقال الصحفي الحديث، قد اتخذ اللغة العربية له لسانًا، وعرض كثيرًا من فروع الحضارة الحديثة نفسها في لغةٍ عربيةٍ واضحةٍ كما يُعْرَضُ في اللغات الأجنبية المختلفة1, ثم استقرَّ في الصحافة المصرية باللغة العربية، يحمل سمات الحضارة الحديثة كما تعرضها الصحف الأوربية، وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة؛ فقد كان "الاتصال القديم ضيقًا أشدَّ الضيق، محدودًا لا يكاد ينهض به "إلّا أفراد يمكن إحصاؤهم"2، أما في العصر الحديث فليس من سبيلٍ إلى "إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينًا, وبالترجمة المكتوبة حينًا آخر"3. فالاتصال الحديث "مباشرٌ قَلَّمَا يَتِمُّ بالواسطة, فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين, ويحسنون اللغة العربية أيضًا, فينقلون عن فهمٍ وبصيرةٍ في كثير من الدقة والإتقان"4.
كما أنَّ وسيلة الاتصال الصحفيّ وغيرها من وسائل الاتصال بالجماهير أتاحت هذا الاتصال المباشر بثقافاتٍ لا تكاد تُحْصَى"5 ولم يعد هذا الاتصال الثقافي من طريق "المكان وحده، ولكن من طريق الزمان أيضًا, فقد استكشف الكثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم"6، كما هو الحال بالقياس إلى تاريخ اليونان والرومان والفرس والهند وغيرها من الأقطار المختصرة7.
فلا غرابة إذن -كما يقول طه حسين8، في أنَّ هذه الأبواب التي فُتِحَت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، باعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى.
ومهما يكن من شيءٍ, فإن الفروق التي يشير إليها طه حسين بين الاتصال القديم والاتصال الحديث، خليقة أن تنشئ فروقًا بين الأدبين القديم والحديث في نفسيهما, وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها أخذت تظهر شيئًا فشيئًا أثناء هذا القرن العشرين، حيث تمثِّلُ الأدب الحديث الوسيلة الجماهيرية الحديثة، وخلقت لونًا جديدًا ينفصل عن هذا الأدب له مقوماته الخاصة، ونعني بهذا اللون العملي القائم على الوظيفية الهادفة