على أنَّ هذا الفهم يقود إلى مناقشة عناصر الأصالة والتجديد على النَّحْوِ الذي يتيح التعرُّفِ على أبعاد الرؤيا الفنية في مقال طه حسين، نتيجةً للرجوع إلى "الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولًا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيًا، وما كان من تعَلُّمِ بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظامٍ ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة, والإقبال على الحضارة المادية الحديثة, واستعارة النُّظُم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثمَّ العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه إلى العلم الحديث الحي ومناهج تعليمه الحية المستحدثة"1. فقد أدى ذلك جميعًا إلى تغيير كثيرٍ من خصائص النفس المصرية -كما يبين من مصادر ثقافة طه حسين- على النحو المتقدِّم، فاضطرها إلى أنحاءٍ من التصوُّرِ والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطوّر يعمل من جديدة، ولكنه كان -كما يقول طه حسين- تطورًا رائعًا حقًّا. ذلك أن هذا التطور كان يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه, وليس أدلَّ من هذا التطور على "قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتَّغَلُّبِ على المصاعب والنفوذ من الخطوب. فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراءٍ ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبيِّ الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال"2. على أن ثبات العقل العربي الحديث لهذا التعاكُس العنيف كان يُخْشَى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن أن يتمَّ التقاطُع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين والكُتَّاب إلى وراءٍ من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمامٍ في غير أناة، ويضيع الأدب الصحفي الناشئ بين هاتين الطريقتين المتعاكستين، ولكنه ثبت لهذه المحنة واستفاد منها. وليس من شك في أن "هذا التعاكُس قد كان له صرعى، فجَمُدَ بعض الكُتَّاب، وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمودهم أحدًا"3, وغلا بعض المجددين ولكنَّ غلوَّهم لم يلبث أن رُدَّ إلى "الاعتدال والقصد"4. والشيء المهم أن الأدب الصحفي في مصر قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد على نحو ما تحقَّقَ في مقال طه حسين.
ذلك أن فنَّ المقال العربي يحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قَبِلَ من "الثقافات الأجنبية مثل ما قَبِلَ من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين"5، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث, ووسيلة الاتصال الصحفي بالجماهير، كما استحدث "من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين"6.