بالدواوين العليا، فليس من الموافق لحزب يسمى بحزب الأمة ويتجنب الاتصال بقصر عابدين وقصر الدوبارة على السواء أن يتخذها مثالًا لصحيفته القومية, فانتهى الخلاف إلى اختيار "الجورنال" نموذجًا لصحيفتهم, و"الجريدة" هي ترجمة اسم "الجورنال"1.
وظهرت "الجريدة" على مثال "الجورنال" في الصبغة غير الرسمية, وفي نظام التحرير وترتيب الصفحات، وأظهر ما كان في هذا النظام فتح صفحات "الجريدة" للكتابة الأدبية بأقلام ناشئة الجيل الحديث، وربما أفسحت في صفحتها الأولى -إلى جانب المقال الافتتاحي- موضعًا بارزًا لقصيدة عاطفية, أو مقال طريف من مقالات الوصف والنقد اللغوي، وترددت على صفحاتها أسماء: محمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وعباس العقاد ومحمد السباعي وعبد الرحمن شكري والمازني والقاياتي وغيرهم كثيرون2.
وكان "اللواء" لسان الحزب الوطني، و"المؤيد" لسان حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية يتقبلان الكتابة بأقلام النشائين، ولكنهما يقصرانها على الناحية السياسية, ولا يرحبان بالكتابة الأدبية إلا إذا كانت بأقلام الشعراء والكتاب النابهين من طراز شوقي وحافظ ومطران والمويلحي والمنفلوطي وأمثالهم بين أدباء الجيل المتقدم، فاتجه الأدباء الناشئون إلى "الجريدة" ولاسيما الطلبة والموظفون؛ إذ كانت الكتابة في السياسة محظورة عليهم، وكانوا يكتبون فيها أحيانًا إلى الصحف عامة -ومنها الجريدة- بتوقيع مستعار3.
وكان شعار الجريدة الذي اختاره لطفي السيد من كلمات الفيلسوف الأندلسي ابن حزم يمثل نزوع جيل طه حسين من التجديديين إلى الجريدة؛ لأن هذا الجيل كان يعلم أن معارضيه بالرأي أضعاف مؤيديه: "مَنْ حقق النظر وراض نفس على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها لأول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبر من مدحهم إياه", وهو يلخص لنا العلاقة النفسية بين هذه المدرسة وبين طه حسين الثائر على البيئة العلمية المحافظة في الأزهر، والذي فُصِلَ منه نتيجة تطرفه في الرأي الذي صدم هذه البيئة.
أما اتصال طه حسين بصحف الحزب الوطني بعد وفاة مصطفى كامل، فهو يرتبط بشخصية الشيخ عبد العزيز جاويش الذي أكثر الاختلاف إليه والاستماع له4، وكان الشيخ جاويش يتشبه بـ"جمال الدين الأفغاني"