البنداري وأترابًا لهم كثيرين، وعرف بفضله لونًا من المعرفة لم يكن يُقَدِّرُ أنه سيتاح له في يوم من الأيام. فقد لقي عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة, ولا لأنها كانت جذَّابة خلَّابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملِحَّةً في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها؛ وهي نبوية موسى1.
ولم يلبث طه حسين أن شغل بهذه البيئة الجديدة، لقد كان يخلص لحياته فيها منذ قرأ لنفسه "أول مقال نشرته له الصحف, أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد منه، فجعل يكتب في الجريدة رغبة في الكتابة أحيانًا، وتقربًا بها إلى مدير الجريدة أحيانًا أخرى، وجعل مدير الجريدة يرضى عن فصوله ويغريه بالكتابة ويحثُّه عليها حثًّا, ويعلمه القصد في اللفظ والأناء في التفكير"2.
ومن ذلك يتبين أن ارتباط طه حسين بصحيفة حزب الأمة، إنما يجيء من خلال التيار الفكري وليس من خلال التيار السياسي الحزبي، ذلك أنه ارتبط بمدرسة الجريدة واتجاهاتها الفكرية الداعية إلى تعقيل الحياة المصرية، وإلى التنوير والحرية, وتجديد شباب مصر بمقومات الحضارة الحديثة, ونجد عند دراسة مقالاته في "الجريدة" تعبيرًا عن اتجاهات التجديد التي ذهبت إليها مدرستها الفكرية، الأمر الذي يفتح أمامه أبواب التجديد على مصاريعها.
وفي حين تمثل الجريدة الجانب الفكري في تكوين طه حسين الصحفي, نجد إعجابه بشخصية مصطفى كامل الذي جعله أحد ثلاثة تدين مصر لهم بما أتيح لها من اليقظة؛ أولهم: الأستاذ الإمام الذي أحيا الحرية العقلية, والثاني: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية، أما مصطفى كامل فهو الذي أذكى جذوة الحرية السياسية3، الأمر الذي يكشف عن اتجاه سياسي حماسي في بيئة التكوين الصحفي لطه حسين، متطرِّفٌ في عداوته للاحتلال.
على أن توزع طه حسين بين الاتجاهين الأساسيين في مرحلة التكوين يجعله كذلك لا ينتمي إلى الحزب الوطني انتماء سياسيًّا، ذلك أن هذا الحزب قد ظل متحفظًا في كثير من القضايا الفكرية الرئيسية، وقد اتخذ لنفسه هذا الطابع منذ زعيمه الأول مصطفى كامل4؛ فهو حزب يحترم الدين، ويدعو إلى التمسك بتعاليمه، ويرى في ذلك بحق ضمانًا لتماسك الأمة حفاظًا على قوتها المعنوية أمام المحتل5. ولذلك نجد تأثر طه حسين باتجاه الحزب الوطني المرتبط بالحرية السياسية: الجلاء والاستقلال التام، ولا يرتبط بالجانب