ألفاظه, وتقصير أوزانه, وتحضير صوره.. ولا أذكر ما طرأ في العراق من ألوان التطور الذي عرض للأدب كله؛ شعره ونثره منذ انتصف القرن الثاني للهجرة. فأما ما طرأ على الشعر في الأندلس فهو أظهر وأشهر وأقرب إلى أوساط المثقفين من أن أحتاج إلى الوقوف عنده.
فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله, ولينشئوا لنا شعرًا حرًّا أو مقيدًا, جديدًا أو حديثًا, ولكن ليكن هذا الشعر شائقًا رائعًا, ويومئذ لن يروا منَّا إلا تشجيعًا أيَّ تشجيع, وترحيبًا أيَّ ترحيب, ودفاعًا عنهم إن احتاجوا إلى الدفاع.
2
وظاهرة أخرى من ظواهرنا الأدبية محزنة حقًّا, وهي أمر هؤلاء الكُتَّاب القلقين الذين لا يكتبون لأنفسهم, ولا يكتبون لقرَّائهم, والذين لا يكفيهم إذا كتبوا أن يقرأهم الناس, وإنما يكتبون لتنشر أسماؤهم في الصحف, وليثني عليهم النقاد ثناء خالصًا متصلًا لا تشوبه شائبة, ولا تقفه تروية أو تفكير، فهم كبعض الشعراء القدماء الذين كانوا ينشئون المدح يبتغون به الجوائز, ولا يرضون عن ممدوح إلّا إذا أجزل لهم العطاء. هؤلاء الكُتَّاب متكسِّبون لا يكتبون ابتغاء المال وحده, وإنما يكتبون ابتغاء المال وحسن الثناء معًا. وويل للنقاد إن سكتوا عنهم, أو أخذوهم ببعض النقص, فهم في أنفسهم أرقى وأسمى وأكمل من أن ينقدوا.
وليس بُدٌّ لهؤلاء من نقاد يلائمون أهواءهم؛ يثنون عليهم ثناءً غير منقطع, ويمدحونهم مدحًا غير منقوص, فإن سكت النقاد منهم, فهم المظلومون المهضومون والمضطهدون الذين تنكر أقدارهم على ارتفاعها, ولقد نشأنا نحاول الكتابة فقال الناس فينا ما نكسره, وعابونا بكل ما يمكن أن يعاب به الكاتب في أدبه وخلفه ونفسه, فلم يزدنا ذلك إلّا إقدامًا على العمل, وجدًّا في التعلم, والانتفاع بهجاء الهاجين وثناء المثنين, لم يبطرنا ثناء قط, ولم يحزنا هجاء قط, وأعترف بل أشهد الله أني كنت أشد إقبالًا على الهجاء مني على الثناء.
وإني لأعرف في هذه الأيام كُتَّابًا تصيبهم ألوان من تعقيد النفوس لا لشيء إلّا لأن النقاد يسكتون عنهم أو يقولون في آثارهم بعض ما لا يحبون.. ففيهم هذا كله, وما هذا الفقر إلى التقريظ والإلحاح في طلب الثناء, ولم لا يكتب الناس لأن طباعهم تدفعهم إلى الكتابة دفعًا, ولأن لهم من رقة القلوب ودقة الشعور وخصب العقول ما يضطرهم إلى أن يقولوا للناس ما ينفعهم, أو ما يروقهم ويرضيهم, أو ما يؤدبهم ويهذب نفوسهم. ومن شباب كُتَّابِنَا من يجزعون للنقد أشد الجزع, ويهلعون منه أعظم الهلع, حتى وصفه بعضهم ذات يوم بأنه سفك لدمائهم وإزهاق لنفوسهم.