القديم وقوافيه لم تتنزَّل من السماء, وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافًا قليلًا أو كثيرًا أو كاملًا.. ولكنَّ للشعر قديمًا كان أو حديثًا أسسًا يجب أن تُراعى, وخصائص يجب أن تتحقق, فليس يكفي أن ينشئ الإنسان كلامًا على أيِّ نحوٍ من أنحاء القول, ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعرًا حديثًا, وإنما يجب أن يحقّق في هذا الكلام الذي ينشئه أشياء ليس إلى التجاوز عنها سبيل؛ فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور, ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معًا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانًا بالرصانة والجزالة, وتمتاز أحيانًا بالرِّقَّة واللين, وتمتاز في كلِّ حالٍ بالامتزاج مع ما تؤديه من الصور؛ لتنشيء هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ هذه من انسجام الألفاظ فحسب, ولا من ارتسام الصور فحسب, وإنما تنشأ من هذا الائتلاف العجيب بين الصور في أنفسها, وبينها وبين الألفاظ التي تجلوها؛ بحيث لا يستطيع السمع أن ينبو عنها, ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها, ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها, ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يرضيه. فإذا استطاع الذين يحبون هذا الشعر الحديث أن يقدِّموا إلينا منه ما يمتِّعُنَا حقًّا, فمن الحمق أن ننكره, أو نلتوي عنه لا لشيء إلا لأنه لم يلتزم ما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي.
وابتكار الشعر الحديث والافتنان في هذا الابتكار ليس شيئًا يمتاز به شعراء العرب المعاصرون من الأمم الأخرى, وإنما هو شيء قد سبق إليه شعراء الغرب منذ وقت طويل, فشعراؤنا حين يُجَدِّدُون لا يبتكرون, وإنما يقلدون قومًا سبقوهم, وليس عليهم من ذلك بأس إذا أجادوا وأحسنوا وعرفوا كيف يبلغون من نفوس معاصريهم ما بلغ شعراء الغرب من نفوس الغربيين على ما يكون بين الغربيين من اختلاف اللغات وتباعد الأذواق. بل ليس شبابنا من العرب المعاصرين حين ينشئون شعرهم الحديث مبتكرين بالقياس إلى الشعراء القدماء من العرب, فما أكثر ما تطورت أوزان الشعر العربي القديم وقوافيه, والدارسون للأدب العربي لم يكد يعيش نصف قرن بعد ظهور الإسلام حتى أخذت أوزانه تخضع لألوان من التطور؛ دخلت عليه الموسيقى التي جاءت بها الشعوب المغلوبة, ودخلت عليه حضارة جديدة لم يألفها الشعراء العرب الجاهليون؛ فتغيرت النفوس وتطورت الطباع ورقَّت الأذواق وصفت. ولم يكن للشعر بُدٌّ من أن يتأثَّر بهذا كله, ويصبح ملائمًا للحضارة الجديدة وما أنشأت من طباع جديدة وأواق جديدة أيضًا. وقصرت أوزان الشعر وخفت لتكون ملائمة للتوقيع الموسيقي الحديث. وظهر ذلك التطور أول ما ظهر في الحجاز وفي المدينتين المقدستين بنوع خاص, وكان الحجاز جديرًا أن يكون قلعة المحافظة في الأدب العربي, ولكنه كان السابق إلى تطوير الشعر؛ لأنه كان السابق إلى الترف، والسابق إلى الموسيقى، والسابق إلى الغناء, والسابق بحكم هذا كله إلى تطوير الشعر بترقيق