أهل كريت كاذبون" وبما أن أبينمنيدس نفسه من كريت، إذن فهو كاذب, ومن ثَمَّ فإن أهل كريت صادقون ... إلخ. ومن أصداء هذا الاستخدام الوظيفي في نماذج عديدة من المقال النزالي، نذكر لطه حسين مقالًا بعنوان: "جنون"4 يقول فيه:
"هو فنون من غير شك، فمنه الهادئ المطمئن، ومنه الهائج الحاد، ومنه الوادع الأنيس، ومنه النافع الجامع، ومنه ما يكون في الصمت، ومنه ما يكون في الكلام، ومنه ما يكون في السكون والاستقرار، ومنه ما يكون في الحركة والاضطراب، ومنه مايكون ضحكًا، ومنه ما يكون بكاء، ومنه ما يكون فنونًا أخرى لا سبيل إلى إحصائها إلا أن تقرأ كتب الأطباء، أو تسأل القائمين على المجانين في سراي العباسية، تلك التي ذكرها أحد النواب أمس، والتي زعم أنها تخرج لمصر سادتها وقادتها الذين يشرفون على أمورها، ويدبرون مرافقها هذه الأيام"؟!!
"لا يعجب القراء، ولا يضغب النواب، ولا تسخط الحكومة، ولا تنشط النيابة، فأقسم ما ذكرت الجنون ولا فكرت فيه، وما كنت لأذكره الآن أو أفكر فيه، لولا أني قرأت صحف الصباح، فإذا بطل من أبطال النواب، يخطب في الاستجواب فيشرد الحساب، ويدخل من كل باب، حتى إذا انتهى إلى الأزمة وما تحتمل مصر من أثقالها، وتلقي من أهوالها، وذكر الصيارف وأمر الصيارف، وذكر شدة الحكومة في جباية الضرائب، وتجشُّم الفلاح للخطوب، واحتماله للكروب، وصبره على المكتوب، لم يشك في أن الذين يخضعونه لهذه المحن ويبتلونه بهذه الفتن إنما هي من خريجي سراي العباسية، ثم استنزل رحمة الله وعفوه ورضاه على سيده ومولاه قراقوش!.
"فلست أنا الذي ذكر الجنون وفنونه، ولست أنا الذي ذكر قصر العباسية ومن فيه، ولكن من حقي فيما أظن إذا جرت ألسنة النواب بمثل هذا الكلام، أن أقف عنده وأتبين معناه، وأَدُلُّ الناس على خفاياه"1.
ومن ذلك يبين اختلال القياس في نظام الحكم الذي ينازله مقال طه حسين, وهو الاختلال الذي يقوم على أداء الوظيفة الاجتماعية للمقال، والتي يكشف عنها المقال في خاتمته بسخرية مرة لاذعة.
"ليتَعَزَّ هذا الشعب البائس التعس، أو ليعرض عن العزاء، ليصبر هذا الشعب البائس التعس، أو ليعجز عن الصبر، فليس للشعب خطر حين يتعزَّى، وحين يجزع، وليس للشعب خطر حين يصبر، وحتى يبلغ من اليأس، ما دام النواب يخطبون فيبرعون في الخطابة، ويختصمون فيتفرقون في الخصام،