الذين تدمي أقدامهم، وتحترق وجوههم, ويتنفَّسون هواء مزاجه اللهب، يعودون بعد طول الجهد وشدة العناء، ولعلَّ كثيرًا منهم لا يجدون ما يطمعون"1.
ويتوسَّل طه حسين بهاتين الطريقتين في النمذجة التي تركِّز على "التصرفات" أفعالًا وأقوالًا، من خلال تصويرها تصويرًا آليًّا، لا يعبِّر إلّا عن جزء منفصل من الشخصية أو النموذج، ذلك أن وظيفة المقال الاجتماعية تقتضي امتداح المثل الأعلى والسخرية من نقيضه في نظام الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو لذلك يتلمس العلاقة بين العادات الآلية من جهة, والتأثيرات الهزلية من جهة أخرى، ومعنى ذلك على حد تعبير "برجسون"2 أن كل انحراف للحياة في اتجاه الآلية لا بُدَّ أن يُوَلِّدَ فينا الضحك، ولذلك يذهب طه حسين إلى نمذجة هذا الانحراف الذي يتخذ صورة سلوك آلي رتيب، كما نجد في مقال بعنوان: "خطبة"3 يقول فيه:
"ليست "أي: الخطبة" لرئيس الوزراء، فقد كفَّ المرض رئيس الوزراء عن الخطابة, واضطره إلى الإغراق في الصمت، أو إلى اختيار الوكلاء الذين يتحدثون عنه ويتكلمون بلسانه, وليس من شكٍّ في أن البيان قد خسر بهذا الصمت الذي أكره عليه رئيس الوزراء آيات لا تحصى"4, إلى أن يقول: ولكن الله -عز وجل- خليق أن يعوّض الوزارة مما فقدت، ويخلف عليها من خطيبها البارع خطيبًا بارعًا، ومن منطقيها الفذ منطيقًا فذًّا، وقد فعل فأقام وزير التقاليد خطيبًا للوزارة مكان رئيس الوزراء!! "5، ويستمر المقال على هذا النحو الكاريكاتيري في نمذجة السلوك الآلي لوزير التقاليد، منتهيًا إلى هذه السخرية: "إن الجهود التي بذلها الفلاسفة إلى الآن في تقويم العقول وتمرينها على التفكير الصحيح لم تؤت ثمرها، ولم تنته إلى نتائجها، إلّا عند شخص واحد، هو شخصه الكريم، ولذا فقد يصعب عليك أن تذوق هذه الخطبة، وتطمئنَّ إلى منطقها حين تقرؤها لأول مرة"6, و"إن من العسير على الرجال العاديين أن يذوقوا أو يفهموا كلام الأفذاذ الممتازين!! "7.
ومن ذلك يبين أن الخصومات السياسية لم تيسِّر اللغة فحسب، ولكنها -كما يذهب إلى ذلك طه حسين8، قد "أحيت" في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ, وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب. فقد أصبح هذا الهجاء