على أن موضع هذه البيئة المصرية، الذي أتاح لها أن تمتاز بين بلاد الشرق الأدنى بثروتها وقوتها وثقافتها, أتاح لها أن تقوم بمهمة التوسُّط بين الشرق والغرب في شئون الثقافة والسياسة والاقتصاد1، فإذا كان فن المقال بمفهومه الحديث يرتبط بتاريخ الصحافة ارتباطًا وثيقًا، فإن عوامل كثيرة قد تضافرت على النهوض به، منها انتشار التعليم الحديث، ثم العمل على إحياء التراث العربي القديم، ومنها كذلك عناية المستشرقين باللغة العربية وآدابها, ثم انتشار الصحافة في الشرق العربي2.
فالمقال الصحفي في مصر يرتبط بانتهاء عصر الوقوف والركود واستئناف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوربي في أواخر القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، ثم دقة هذا الاتصال وتنظيمه في هذا القرن الذي نعيش فيه3؛ حيث ألغيت المسافات الزمنية والمكانية, وأصبح الاتصال في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة4.
على أن هذا الاتصال بالحضارة الأوربية قد فرض طابعه على جانب هام من جوانب التطور الفكري والاجتماعي الذي يشمل الصحافة في أعطافه، وأخذ امتداد هذا التيار الأوربي يهز القيم والتقاليد القديمة هزًّا عنيفًا لا يبلغ حَدَّ الثورة على تلك القيم والتقاليد, وإن كان يرمي إلى التوفيق بين القديم والجديد في إطارٍ من تراث الآباء والأجداد والحضارة العربية الأصيلة5. ذلك أن الثقافة في مصر في نهاية القرن الثامن عشر -رغم ما كانت عليه من جمود وانحطاط- كانت ثقافة متجانسة لا تعاني من ازدواج أو صراع. حتى إذا ما استيقظ المصريون على صوت مدافع بونابرت في سنة 1798 غازيًا للبلاد تحدث مواجهة فعلية بين ثقافتين وحضارتين مختلفتين على الرغم من اشتراكهما في الأصول والمنابع الأولى إلى حد كبير6.
وقد انعكست الصورة المترسبة عن عصور الانحطاط على فنِّ المقال الذي اتسم "بالجمال الفني في الكلام"7, وقنع بما كان بينه وبين الأدب العربي المنحط من صلة, على أن اصطدام المصريين بغيرهم من الأمم قد أذكى في