نفوسهم وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم1, فما هي إلّا أن انتهى القرن التاسع عشر -كما يقول طه حسين2- حتى كانت الحياة الغربية قد وصلت إلى طائفة من الناس فأثَّرت بعض التأثير في عقولهم، وعجزت عن أن تؤثر في شعورهم وعواطفهم، فكانت حياة عقلية فيها شيء من الجدة، وفيها ميل إلى الخروج على القديم، وكان اندفاع، يختلف قوة وضعفًا إلى العلم باختلاف الظروف وأطوار الحياة الفردية والاجتماعية، وأنشئت مدارس وظهرت صحف، وترجمت كتب، ولكن الأدب ظلَّ كما هو قديمًا أو متين الاتصال بالقديم3".
على أن مسار التطور في أساليب التعبير، لا ينفي أن هذه الحماية الفرنسية قد "فتحت أعين الشرق على مواطن عجزه ونقصه، وعلمته قهرًا ما كان يأبى أن يتعلمه باختياره، فأدرك حاجته إلى التغيير العاجل4", ولعلَّ من أهم ما جاءت به هذه الحملة أنها أتت إلى مصر بالمطبعة العربية، التي أخذت تحدث في "مصر والشرق أثرًا كالذي أحدثته في أوربة إبَّان النهضة الأوربية منذ قرون"5, ومن أهم هذه الآثار أن هذه الحملة قد جاءت لتمهِّدَ لانفصال القومية عن العالم الإسلامي، وهو الأثر الذي ننظر إليه في إطار الارتباط بين ظهور المقال الصحفيِّ الأوربي, وظهور القوميات المنسلخة عن العالم المسيحي الموحَّد. فنجد أن فن المقال الصحفي في مصر كذلك جاء هو الآخر مرتبطًا بحركة الانفصال عن الخلافة العثمانية6 التي ارتبطت في أذهان المصريين بالتخلُّف الذي جعلهم يتجهون إلى فكرة التقَدُّمِ العصري الذي سبق إليه القوم" بعلوم ابتكروها، أو بعلوم اقتبسوها منَّا، وآن لها أن تردها إلينا"7. فلم يمض جيل واحد بعد الحملة الفرنسية حتى ظهر "الرجل المثقف" في البيئة المصرية, ولم تخل منه بيئة من بيئات التقليد والرجعة إلى القديم، وهي على عادتها في الأزمنة المختلفة أعدى أعداء التحول والتجديد8, وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولًا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيًا، وما كان من تعلُّمِ بعض اللغات الأجنبية, وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطِّراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحياة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوربا، ثم العدول عن العلم الموروث بعد ذلك إلى العلم الحي الحديث, ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد