وهكذا ينتقل المقال النزالي من "المعاني" إلى "الأشياء"، وهذه الأشياء في مقال طه حسين، "شواهد" مشتقة من الواقع، وتعتمد على الأخبار والماجريات، ويتم الانتقال بين "المعاني" وبين هذه "الأشياء" من خلال ذهن عملي واقعي، يتوسّل بهذه الأشياء توسُّلًا وظيفيًّا لأداء المعاني التي يهدف إلى توصيلها لقارئه، بغرض "الإقناع" أو بغرض "التغيير".
ثالثًا: استخدام الأسلوب الجدلي في غرض غير مباشر، لإحداث تأثير أقوى على القارئ من جهة الإقناع بفساد دعوى الخصوم، وقد أشرنا فيما تقدَّم إلى أثر الثقافة العربية في توجيه أسلوبه الجدلي، وجهة تقوم على تمثُّل فنون الجدل واستخدام أسرار اللغة العربية استخدامًا وظيفيًّا في أداء أغراض هذا الجدل من خلال النزال الصحفي، فمن مظاهر الأصالة في مقال طه حسين تمثُّله مناظرات المتكلمين والفلاسفة ورؤساء الفرق السياسية وجدلهم في الكوفة ومسجد البصرة في أول القرن الثاني للهجرة، ويؤيد كلٌّ منهم "مذهبه السياسي باللسان, بعد أن كان يؤيده بالسيف،1 والتأييد باللسان، هو النزال القولي في مقابل النزال الحربي، ولكن هذا النزال القولي يدعو "الناس إلى شيء كثير من التفكير والاعتبار والعظة"2.
فالأسلوب الجدلي أسلوب إقناعي يتوسَّل به طه حسين في مقاله النزالي، الذي يتحدد مفهومه الجدلي بأنه يتوسَّل في تأييد رأيه بالبرهان وإبطال رأي منازله ودحض حجته. "والأصل فيه أن يكون حديثًا غير مكتوب، ولكن بعضه يكون كتابة كالجدل في الرسائل والجرائد والمجلات"3, ويقوم هذا الجدل المكتوب على "علم أدب البحث, وعلم الجدل لتنظيم الكلام على وجهٍ يعطي كل مجادل حقَّه"4. والجدل في مقال طه حسين النزالي، أسلوب يعتمد على الكشف عن "الحقائق, وتبين ما في الكلام من دخل, فترى الحجة قوية في ظاهرها حتى يدحضها بفكر دقيق ونظر ثاقب، فلا تجدي الفكرة الغامضة والعبارة المبهمة، بل تحدد الفكرة وتصاغ لها العبارة, لا تزيد عليها ولا تنقص، ويستولي الفكر لا الوهم على الكلام, فيصرفه تصريفًا لا يقوى عليه إلا من أوتي حظًّا من العقل الناقد والبيان القدير"5.
وتأسيسًا على هذا الفهم، نجد أن الأسلوب الجدلي في نزاليات طه حسين غير مباشر، بمعنى أنه قد يتوسَّل بالحوار، كما أنه قد يتوسَّل بقالب الوصف والتصوير، أو القالب القصصي، كما سنجد في المقال الكاريكاتيري. على أن