"كان يجب أن يقعد نسيم باشا عن لوزان, وكان يجب أن يمسح نسيم باشا الدستور, وأن يضحي بسلطان الشعب لرجال البلاط, وبنُصِ السودان للإنجليز, كان هذا واجبًا. ولكنا نستطيع أن نقول لدولة الباشا: إن هذا لم يكن واجبًا, وإن قومًا غيره كادوا يسافرون إلى لوزان, ويحتفظون بنص السودان, ويصدرون الدستور كاملًا، وإن قومًا غيره استطاعوا أن يبرئوا هذا الدستور من كثير من ضروب المسخ والتشويه, ولكن الأغرب من هذا أن تكون سياسة نسيم باشا هي السياسة الوحيدة التي تعين مصر على تحقيق آمالها, وأن يكون الفرد في لوزان معفيًا لمصر من ديون الجزية بعضنا بعضًا، ولا أن يجتمع بعضنا إلى بعض في حفل عام، أو خاص، إلّا إذا أذنت الوزارة ورضيت، والوزارة تأذن وترضى ولكن لأصدقائها وأنصارها، فأما خصومها فذلك شيء ليس لهم أن يستمتعوا به أو يفكروا فيه. ونحن آمنون, ولكن جرائم القتل والشروع في القتل يذاع بعضها كل يوم، فإذا هو مروّع مخيف, أشبه بما تشتمل عليه بعض البلاغات الرسمية حين تصور خسائر الأعداء من القتلى والجرحى في بعض المواقع الحربية المنظمة. فقد كانت خسائر مصر يوم كذا خمسة عشر أو ستة عشر أو أربعة عشر، منهم القتيل, ومنهم الجريح المشرف على الموت، ومنهم الجريح الذي يُرجى له الشفاء, ولا تذكر السرقات, ولا تذكر خطف الأطفال, ولا تذكر الاعتداء على الترع، فكل ذلك شيء لم يبق له خطر. ونحن موسرون, ولكن امرأة تكلف من يعرض ابنتها للبيع، ورجلًا يعجز عن أن يعول أهله، ومنهم زوجه وأطفاله فيصب عليهم الزيت ويشعل فيهم النار. ونحن مدبرون، ولكن الدول الأجنبية تأبى أن تجيبنا إلى فرض الضرائب على رعاياها؛ لأنها ترى من إسرافنا وتبذيرنا وإلقائنا للمال باليمين والشمال ما يقنعها بأنا أغنياء، فلا ينبغي أن نشق على سادتنا الأجانب بفرض الضرائب عليهم، والتسوية بينهم وبين عبيدهم المصريين. ونحن أعزة في بلادنا، ولكن طائفة من الأجانب يعتدون على ديننا وأخلاقنا وأعراضنا، سرًّا وجهرًا، فإذاحاولنا أن نرُدَّهم عن ذلك, أو نَحُول بينهم وبينه, قامت من دونهم قوى خفية وأخرى ظاهرة فردتنا نحن وصدتنا، وقالت: إياكم وفرض الرقابة على هؤلاء الناس، حتى تنظم لكم هذه الرقابة تنظيمًا برأي الإنجليز, وبعد استئذان المبشرين.
"وعلى هذا النحو تجري أمورنا كلها معكوسة مقاومة, والناس عنها راضون، وإليها مطمئنون, ومنهم من يفاخر بها, ويتخذ منها الأدلة الواضحة على هذا الشأو البعيد، الذي قطعناه في سبيل الحرية والاستقلال، وعلى هذا المنزل الرفيع الذي نزلناه من التقدُّمِ والرقي حتى كدنا نبلغ الكمال، ونحن بالغوه من غير شك في آنٍ قريب جدًّا، متى فرغ رئيس الوزراء من الاصطياف والاستشفاء1".