باشا صامت إذا عمل، ناطق إذا لم يعمل. فلننظر ماذا قال بعد أن رأينا, أو بعبارة أصح, بعد أن احتملنا نازلة القضاء بما عمل. لننظر ماذا قال, لا لنستفيد ولا لنعتبر, فليس الكلام الذي نطق به نسيم اليوم موضعًا للفائدة أو العبرة. لننظر ماذا قال لنضحك, نعم لنضحك، فقد قال نسيم باشا شيئًا مضحكًا, ومضحكًا جدًّا, وليته عمل كما قال فأضحك ولم يبك, وسر ولم يحزن, ولكن الله أراد أن تكون أعمال نسيم باشا مبكية مؤلمة, وأقوال نسيم باشا مضحكة تبعث البهجة في النفوس.
"تكلم نسيم. وهل تدري إلى مَنْ تَكَلَّمَ؟
"تكلَّم إلى الخواجا دورماني, وإلى مَنْ تريد أن يتحدث نسيم إذا لم يتحدث إلى الخواجا دورماني وإلى الخواجا كاسترو؟ فقد خلق كاسترو ودورماني بوقين لنسيم, وخلق نسيم أنفخ في هذين البوقين, وبين هذا النافخ بنت اليوم ولا بنت أمس. ولكنها قديمة. فكثيرًا ما نفخ نسيم قبل الحكم وأثناء الحكم. وكثيرًا ما زمَّر كاسترو ودورماني قبل الحكم وأثناء الحكم, وما يزالان يزمران بعد الحكم, ولكل مزمار سامع, كما أن لكل بوق نافخًا. فلكاسترو ودورماني ناس يسمعون ويطربون, كما أن لكاسترو ودورماني ناس يوحون وينفخون.
"تكلم إذن نسيم باشا وهو بطبيعة الحال يدفع عن وزارتيه, نعم وزارتيه: عن وزارته الحديثة التي أضاعت نُصَّ السودان, ومسحت الدستور, وألقت على الكثرة المطلقة جرائم القتل رسميًّا, وعن وزارته القديمة التي حاولت قتل الروح الوطني وإفساد الخلق الوطني, وكادت توفق من هذا كله إلى شيء كثير.
"نعم يدفع نسيم عن وزارتيه ولكنه لا ينهض بحجة, ولا يعتز بدليل, وإنما يصيح بأنه بريء, وبأنه مظلوم, وبأنه مخلص, وبأنه صادق, وبأنه مستجمع كل صفات الخير, وبأنه أراد أن يكون مسخ الدستور والعبث بحق الشعب محققًا لسلطان الأمة وسيطرتها على أمورها, وأن يكون النزول عن نص السودان مؤيدًا لحقوق مصر في السودان, مثبتًا لمركز المفاوض المصري يوم تدرس مسألة السودان, وأن يكون اتهام الكثرة المصرية بجرائم القتل موصلًا إلى تحسين الصلات بين المصريين والإنجليز. ولكن نسيمًا هو الذي ينفخ ودورماني هو الذي يصيح, وإذا صاح هذا ونفخ ذاك فليس لنا إلّا أن نضحك1! ".
ومن ذلك النموج يبين توسُّل طه حسين بأدوات السخرية في التجريح