ذلك أن النزال -عند طه حسين- هو مصدر المذاهب الأدبية المختلفة, والمذاهب الفلسفية على اختلافها1، ولم تكن الخصومة بين العقاد والمازني وشوقي عنده -تجريحًا، لأنها "فتحت للمعاصرين من الأدباء المصريين أبوابًا جديدة في الفن, وآفاقًا جديدة في النقد, وعلمتهم أن الشعر لا ينبغي أن يكون تقليدًا للقدماء ومحاكاة لهم في رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وروعة النظم مهما تكن, ومكانة هؤلاء الأدباء, ومهما يعظم حظهم من التفوق والنبوغ. وإنما ينبغي أن يكون الشعر مقتطعًا من الحياة التي يحياها الناس في العصر الذي يقال فيه، مقتطعًا منها وسابقًا لها أيضًا؛ وفاتحًا لقرائه وسامعيه آفاقًا جديدة في التصور والحسِّ وفي الشعور والخيال"2.
على أن النزال في مقال طه حسين يرتبط كما تَقَدَّم برؤية وظيفية، تبين من موقف مقاله من زوال المجتمع التقليدي، وهي الرؤيا التي جعلته يتخذ أسلوب الاستقراء الديكارتي أسلوبًا لمقاله النزالي، على النحو الذي أشرنا إليه، لأنه أنسب الأساليب في التغيير ومواجهة عوامل التدعيم الوسيطة، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن النزال في مقال طه حسين لا ينفصل عن الاستراتيجية الحضارية العامة التي صدرت عنها جميع مقالاته الصحفية في الاتجاهات المختلفة.
ثانيًا: إن طه حسين -تأسيسًا على ما تَقَدَّم- لم ينازل أحدًا لمجرد الرغبة في التجريح، ولكنه يتمثل وظيفة النزال قبل أن يقدم عليه، وهو لذلك حين يتهيأ لنزال يدرس الأمر مليًّا، حتى يتمكَّن من تحقيق الإقناع المنشود، ومن ذلك أنه خاصم العقاد في غير "موطن من مواطن الخصومة"3. خاصمه في "السياسة, وخاصمه في الأدب، وخاصمه في غير السياسة والأدب أيضًا"4، ولكن هذه الخصومة كما يقول: "لم تغض من قدر العقاد في نفسي, وما أظن أن بين لدات العقاد وأترابه ومعاصريه من يقدره ويكبره مثل ما أقدره أنا وأكبره"5. وسبق أن أشرنا إلى أنه أثنى على أدب العقاد في جريدة "السياسة" حين كانت "الخصومة بين الوفديين والدستوريين كأعنف ما تكون الخصومات". لم يمنعني ذلك من أن أسجل أنه كاتب عظيم وشاعر ممتاز, وقد كانت الحرب سجالًا بينه وبيني, فلم يمنعه ذلك من أن يقوم مقام الرجل الكريم في مجلس النواب، فيدافع عني حين كان الوفديون جميعًا عليَّ حربًا"6. وقد خاصم الرافعي كما خاصمه العقاد, وخاصم المازني وهيكلًا وغيرهم كما خاصموه: "ولكن ذلك لم يمنعنا في يوم من الأيام من أن نكون أصدقاء يعرف بعضنا لبعض حقه, ويضمر بعضنا لبعض ما يضمر الصديق للصديق من