إلى ما هو كائن، والاستخفاف بما يمكن أن يكون1". ويصرح طه حسين أنه كان يؤثر دائمًا "سخط العقول على رضاها، وأن أحب لها القلق وأكره لها ما يمكن أن تضطر إليه من هذا الأمن المخيف الذي ينتهي بها إلى الفتور وإيثار الدعة, والاطمئنان الذي يحبب إليها الراحة, ويغريها بالكسل, ويزين لها الاستسلام والتسليم أيضًا2".
وفي ضوء هذا الفهم الوظيفي للنزال، فإن طه حسين في كثير من الأحيان هو الذي يطلق "السهام" الأولى، ويتخذ مكان "الهجوم" قبل أن يكون في "الدفاع"، ذلك أن النزال عند طه حسين إنما يكون "في سبيل الرأي أو في سبيل كلمة تقال, وليس من قالها3" ويتمثَّل في ذلك بقول الشاعر القديم:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل4
وعثرة اللسان هذه -عند طه حسين, إنما يكون مصدرها "حب الحق والحرص على النصح للناس وإن كرهوا النصح والناصحين5، وهي لذلك في المقال النزالي تُعَرِّضُ الكُتَّاب والمصلحين للمحن "لأنهم يقولون ما لا يرضى الناس6"؛ ولأنهم يحاولون "أن يلقوا في روع الناس ما لم يألفوا, وما لم يحبوا ويريدون أن يحملوهم على منهج جديد من مناهج الحياة, مخالف للمناهج التي آثروها بالحب ووصلوا بها قلوبهم وعقولهم وصلًا, وكرهوا أن يزعجهم الناس عنها بعد أن طال اطمئنانهم إليها7". تلك هي الرؤيا الوظيفية للنزال في مقال طه حسين، حين يتجه في الاتجاه الثقافي والسياسي أو الاجتماعي، وهي الرؤية التي تجعله كما يقول الدكتور هيكل عنه "مهاجمًا" أبدًا، وكما ظهر أثر تلك الرؤية النزالية في مساجلاته الأولى حول "الحرب والسلام", ومع الرافعي وجورجي زيدان والمنفلوطي, وكما ظهر أثر الرؤيا في مقاله السياسي أو الاجتماعي من بعد، ذلك أنه كما يقول -يستطيع أن يحمل نفسه "على الصمت؛ لأنها تأبى إلا الكلام حين يوجد موضع الكلام"8؛ ولأنه إن "أكرهها على ما لا تحب" واضطرها اضطرارًا إلى الصمت, وحملها على الإغراق فيه, جاءه الراضون عنه والساخطون عليه: "فاستكرهني على القول وأخرجوني من العزلة", وخلطوني بأنفسهم, وأشركوني في خصوماتهم ومشكلاتهم التي لا تنقضي"9.