في النزال العنيف، متى أتيحت له الوسائل, وملك أن يفصح عن حقيقته ومشاعره وآرائه في صبره على النزال وجرأته في مواجهة الخصوم، يرتبط بهذه الخصائص الشبيهة بالفطرية، ميل طه حسين الشديد إلى أن يكون في صفوف "المعارضة" أكثر مما يميل إلى صفوف "الإجماع", نجد ذلك الميل لديه منذ سافر إلى القرية أول مرة وهو طالب بسيط في الأزهر، فاستخفَّت به القرية وهي تحتفي بأخيه كلما شقَّ دروبها, بل تحتفي به غائبًا فترفع الصوت في السؤال عنه والاطمئنان عليه. فآذى نفسه ذلك فمضى ينقد كل شيء: دلائل الخيرات التي كان يعتز والده بقراءتها، ومجالس الشيوخ، وامتدَّ نقده إلى المحكمة الشرعية نفسها، فانتقم لنفسه صبيًّا وخرج من عزلته؛ وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه. وتغيَّر مكانه من الأسرة، مكانه المعنوي إن صحَّ هذا التعبير، ولم تعرض عنه أمه وأخواته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق، وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه يبقى في القرية، ينقطع عن الأزهر, ويصبح فقيهًا يقرأ القرآن في المآتم والبيوت1.
فاتجاه طه حسين إلى صحافة المعارضة منذ عودته إلى وطنه بعد ثورة 1919، سواء في صحافة الأحرار الدستوريين، أو في صحافة الوفد حين كان الوفد في معارضة صدقي، اتجاه أصيل في نفس طه حسين، منذ كان يجادل شيوخه في الأزهر حتى خرج منه عقب جدال. حتى السلطان نفسه عارضه فكان إذا غضب على شيخ انتصر له وأعلن انتصاره له في الصحف, وسعى إلى داره, ولزم درسه فيها, لا حبًّا في علمه" ولا تهالكًا على شيخه، ولكن تحديًا لذلك السلطان الذي كنا نراه جائرًا متحكمًا, ولا نريد أن نذعن لجوره ولا لتحكمه"2 وقد تعرفنا على آثار هذا الاتجاه في النزاليات الأولى لطه حسين، حين هاجم المنفلوطي الذي كان الناس "يجمعون" على الإعجاب به، إن جاز هذا التعبير، وكما تبيَّنَ من مساجلة "الحرب والحضارة" في السفور؛ وهي مساجلة "صنعها" طه حسين، على نحو ما تقدَّم تفصيل ذلك، يتوسَّل بها إلى القراء ليثير فيهم "الجدل والتفكير", ولم تلبث هذه النزاليات "أن تمثَّلت عناصر الثقافة القديمة والحديثة، والمقومات الشخصية, لتؤصل بعد عودته إلى وطنه فن المقال النزالي الصحفي في مزاج جيله, وتقيمه على تقاليد مكينة، كما تبيَّن من دراستنا لمصادرها في القديم والحديث، وهو فن يتوسَّل به رغم حزبيته إلى التعبير عن أفكار تتعلق بالمبادئ العامة، وتدور حول اتجاهات جديدة في إطار من "التعقيل" و"التنوير", ذلك أن قالب "النزال" في نهاية