الشعب ملك للشعب، يبتئس بها حين تفرض عليه الابتئاس، ويبتهج بها حين تثير في نفسه الضحك. وليس للناهضين بأعباء هذه الحياة أن ينكروا ذلك أو يضيقوا به، فهم حين يقبلون النهوض بأعبائهم لا يشترطون على الشعب ألا يضحك منهم حين تدعو سيرتهم للضحك، وألا يتنَدَّر بهم حين تدعو سيرتهم للتندر, وكما أن الكاتب والشاعر والفيلسوف والعالم لا يشترطون على قرائهم قبل أن يقدموا إليهم آثارهم أن يعفوهم من النقد، فالساسة والقادة والموظفون لا يشترطون على الناس قبل النهوض بأعمالهم أن يعفوهم من النقد, سواء كان هذا النقد مرًّا أم حلوًا وجدًّا أم مزاحًا1".
ومن ذلك يبين أيضًا أن طه حسين قد وجد في الصحافة الفرنسية نموذجًا للنزال الصحفي، كما وجد في "خصومتها السياسة لذة، لأن فيها ذكاء حادًّا, وفيها رقة في اللفظ, وفيها إصابة في الجدال، وفيها على هذا كله براءة من السب والشتم ولغو الكلام وهراء الحديث2".
فإذا أضفنا إلى ذلك تمثله للأسلوب الديكارتي في مقاله الصحفي بصفة عامة، وفي مقاله النزالي خاصة، فسيتضح لنا الأثر الفرنسي في مقال طه حسين، وهو الأثر الذي ينمي الأثر العربي ويقوّمه، كما أثَّر التيار الصحفي في طور التكوين في توجيه مقاله النزالي، ذلك أن هذه البيئة الصحفية -كما تَقَدَّم- قد شهدت معارك قلمية ترتبط بنشأة الأحزاب السياسية في مصر، كما ترتبط بالحياة الأدبية في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، على نحو ما نجد في معارك: عام الكف، وعام الكفء، وعام الكفر3. وقد تعَرَّفنا على أثر هذه البيئة من خلال تشجيع الشيخ جاويش للأسلوب النزالي في مقال طه حسين، ذلك أن مذهب الشيخ جاويش هو "مذهب الغُلُوِّ والإسراف4، فكان يحبب العنف إليه ويرغبه فيه، ويحرضه عليه تحريضًا5.
على أن هذه المؤثرات الخارجية قد تضافرت جميعًا مع مقومات شخصية طه حسين ومصادر ثقافته على تطوير الأسلوب النزالي, الذي استجاب له طه حسين نتيجة لاتجاهه الشبيه بالفطري؛ فقد وجدنا من حادثة "اللقمة الشهيرة" أثر البيئة الأولى في اكتسابه صفة الجلد، التي جعلته يُحَرِّمُ على نفسه ضروبًا من اللعب وألوان الطعام والشراب1، وإلى هذه الصفة، ذهبنا إلى إرجاع جلده