فيختصم فيه الناس كما يختصمون في السياسة، وبعضها يتصل بالأدب, فيختصم فيه الأدباء دون غيرهم من الناس، وبعضها يتصل بالأدب والسياسة جميعًا"1, وكان للبيئة الفرنسية صداها في نزال طه حسين، فالناس في هذه البيئة" "يختصمون دائمًا، تفرض منافعهم عليهم هذا الاختصام، ولكنه اختصام لا يفسد الحياة، ولا ينغِّصُ العيش, ولا يدفع إلى المكر، ولا يغري بالكيد، ولا يغيِّر صداقة الأصدقاء، ولا يجعل بعض المواطنين لبعض عدوًا. وما أكثر ما يختصم المختصمون في مثل هذه البيئة أشد الاختصام وأعنفه في الصحف أو في البرلمان أو في غير الصحف والبرلمان من وجوه النشاط! ولكنهم على ذلك يلتقون وقد ألقوا عن أنفسهم ثقل الخصومة حين ألقوا عن أنفسهم ثقل العمل، وخلصت قلوبهم وضمائرهم لما يكون بين المثقفين حين يستقبلون مشهدًا من مشاهد الفن, أو موضوعًا من موضوعات الأدب أو خاطرًا من خواطر الفلسفة"2.
ويتمثل هذه البيئة الفرنسية في نزالياته، حين يريد أن يختصم المصريون كما يختصم الفرنسيون وغيرهم من الشعوب المتحضرة الراقية، ذلك أن المصريين "يختصمون كما كان الناس يختصمون في بعض البيئات القديمة, لا يرعون في خصومتهم رفقًا ولا أناة ولا ذوقًا ولا وقارًا، وإنما هو العنف والإمعان في العنف حتى يصلوا إلى أبعد غاياته مهما تكن النتائج، يخلطون أنفسهم بأعمالهم وأعبائهم، ويسرفون في الإيمان بأنفسهم حتى يقدروا أنهم إذا نهضوا بالسياسة وأعبائها فإنما ينهضون بأمورهم الخاصة لا بأمور غيرهم من الناس. ولست أعرف أشد غرورًا ولا أعظم إمعانًا في الحمق من رجل يعيش في العصر الحديث ويمارس الأعمال العامة على النحو الحديث, ثم لا يفرق بين شخصه وبين أعماله العامة، ولا يقدر أنه حين ينهض بالمنصب أو يمارس السياسة ليس إلّا وكيلًا للشعب ينوب عنه في تدبير بعض أمره نيابة موقوته قد تقصر وقد تطول, ولكنها موقوته على كل حال"3.
ومن ذلك يبين أثر البيئة الفرنسية في توجيه المقال النزالي عند طه حسين، توجيهًا يقوم على أن "الشعب في البلاد الحُرَّة يرى أن الحياة العامة ملك له هو لا للسياسة ولا للقادة4، ولذلك فإن واجب المقال النزالي يقضي عليه أن يوجه إلى احتمال "جد الحياة العامة, ويشقى بهذا الجد أحيانًا في نفسه وماله، فإن الحق الوطني المدني له أن ينعم بما في حياته العامة من خير, ويلهو بما في هذه الحياة العامة من فكاهة أو دعابة أو مزاح. والمهم هو أن حياة