ومن ذلك يبين أثر البيئة الأزهرية وأثر "الفقه" وما يَضُمُّه من مسائل جدلية في تنمية الاتجاه الفطري إلى "النزال" عند طه حسين، وتوسّل هذا النزال بفنون الجدل المستقاة من ثقافته العربية القديمة، في إقناع القراء وقهر الخصوم. ذلك أن الثقافة العربية القديمة أيضًا قد زوَّدته بأسس جدلية توسَّلت بها الفرق الإسلامية، وأصحاب المقالات الفلسفية في الحوار وتقرير الآراء، والتي بدأت شفوية في الحديث والخطابة، ثم صارت كتابية تسجل في كتب ورسائل، كما نجد في مناظرة الهمذاني والخوارزمي في نيسابور1، ومناظرة "صاحب الديك" التي كتبها الجاحظ في "الحيوان" لبيان رأيين مختلفين، وغيرهما كثير.
والباحث في أصول النمط النزالي في مقال طه حسين يجد امتداد التيار القديم في التحرير المقالي، والذي جعلناه في معطيات هذا البحث مؤثرًا من المؤثرات التي أنتجت فن المقال الصحفي في الصحافة العربية والمصرية، ومن أصول هذا التيار ما نجده عند العلماء العرب من تناول المتن والسند والدليل والتقسيم وغيرها من المسائل الموضوعية والمعنوية، وما نجده كذلك من ازدهار النزال في التيار القديم لارتباط نشأة النثر العربي بنشأة الأحزاب السياسية بعد تفوض نظام الخلافة وإقامة الملك2, ثم نشأة المناظرات العلمية والفلسفية والدينية بعد ذلك3. وذلك كله بالإضافة إلى فنِّ "الهجاء" الذي عرفته الثقافة العربية القديمة وتفننت فيه، وإلى هذا التيار القديم يُرْجِعُ طه حسين ازدهار "النمط النزالي" في المقال الصحفي بين الحربين، ذلك أن الخصومات السياسية قد يسَّرت اللغة تيسيرًا غريبًا، ومنحت العقول حِدَّة رائعة ونفاذًا بديعًا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة، والاهتمام لها, والتفكير المتصل فيها. وأحدثت أو قل: أحيت في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكُتَّاب. فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف, وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة"4.
وإلى جانب هذا الأثر القديم في ثقافة طه حسين نجد للثقافة الفرنسية الحديثة أثرها في توجيه مقاله النزالي، نكتفي من ذلك بإشارته إلى القصص التمثيلية التي تثير ألوانًا من النقد "لها خطرها، بعضها يتصل بالسياسة