ومن ذلك أن البيئة الأزهرية كانت تحفل بفنون الجدل، حين نشأ فيها طه حسين، ذلك أن الأجيال التي سبقته مثل: "محمد باشا صالح, وسعد باشا زغلول"1 كانت تحرص على هذا الجدل وتتفنن فيه، فكان سعد زغلول ينادي صاحبه ليتجادلا، ويترك له اختيار الجانب الذي يدافع عنه، ليتولى سعد الدفاع عن الجانب الآخر. و"حدث يومًا أن كان الشيخ محمد صالح غير متهيئ للجدل, فلما قال الشيخ سعد الله: هلمَّ نتجادل، قال الشيخ محمد: فليكن موضوعنا إذن "فائدة الجدل", واختار هو الدفاع عن أن للجدل فائدة, ودافع الشيخ سعد الله عن أن الجدل لا فائدة منه ولا غناء فيه"2. وفي ذلك ما يشير إلى أثر البيئة التي تمثلها الأزهري القديم في فلسفته المسلَّحة، إلى جانب الثقافة العربية القديمة، وما تشير إليه من توجيه في فنون الجدل عند طه حسين، فالجدل -كما يقول ابن خلدون3 هو: معرفة أدب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم, فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعًا, وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابًا, ومنه ما يكون خطأ, فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابًا وأحكامًا يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول4. وسُمِّيَتْ هذه الآداب "آداب البحث والمناظرة"5 على أن الخلاف والجدل في عرف العلماء العرب يختلفان عن البحث والمناظرة من حيث أن الغرض منهما الإلزام، والغرض من المناظرة إظهار الصواب6، فهي تعنى بخدمة الحقيقة والصواب، لا يعنيها الناس كما يعنيها إثبات الحق وبيان وجه الصواب.

ويظهر أثر هذه الثقافة العربية القديمة، في تأثُّرِه بالفقه الذي درسه في الأزهر، فيذهب طه حسين إلى إيثار كلمة "الفقه" على كلمة "القانون" في مناظرته مع هيكل، ذلك أن الفقه عند طه حسين" ييسر" للكاتب دراسة نفوس الأفراد والجماعات ومعرفة خصائصهم، وما يعرض لهم في حياتهم الداخلية والخارجية من الأحداث والخطوب، وهو محتاج إلى هذا لأنه مضطر بحكم صناعته, سواء أكانت أدبًا أم فقهًا إلى أن يتحدث إلى الناس فيما يكتب وما يقول. وهو من هاتين الجهتين محتاج إلى العلم بشئون الناس, والتأثير في نفوسهم إذا تحدَّث إليهم في فصاحة وبلاغة وحسن أداء7. ويذهب تأسيسًا على هذا إلى أن الكاتب البارع أو المحامي الماهر لا تأتيهما البراعة من إتقان علوم الفقه بقدر ما تأتيهما من القدرة "على إقناع القضاة وقهر الخصوم"8.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015