وأنا أنكر هذا وأراه بعيدًا، لأن البرلمان حفيظ على الدستور لا ينزل عنه كله أو بعضه لإنسان كائنًا من كان, ومهما يكن له عليه من فضل أو جميل, وإما لأنَّ مرض رئيس الوزراء قد أعدى البرلمان بعض الشيء فأصابه هذا الفتور الشامل الذي يصيب المرضى والمعقدين، فتقصر ذاكرتهم ويقل حظهم من الملاحظة والمراقبة لما يجري حولهم من الحوادث, وما يثور بين أيديهم من المشكلات.. وأكبر الظن إن صحَّ هذا الخبر أن البرلمان لم يتعمَّد الإعراض عن هذا العمل الغريب من أعمال الحكومة, وإنما اضطره النسيان والضعف إلى هذا الإعراض والتقصير، فلعله ذاكر ما نسي، ومقبل على ما أعرض عنه، ومعنيٌّ بما فرض فيه، ومن المحقق الذي لا شك فيه أن مجلس النواب قد أقرَّ أمس قانونًا ينظِّمُ تعيين الأساتذة والمدرسين في الجامعة وتأديبهم, وأُقِرَّ هذا القانون في جلسة واحدة"1.

ومن ذلك يبين أن صلب المقال يقوم على شواهد إخبارية، تُستَخْدَم استخدامًا استقرائيًّا من خلال حاسَّة صحفية دقيقة تتيح للكاتب أن ينفذ إلى مغزى الأخبار, وما يحمله الخبر من المعاني والتنبؤات, وتقوم هذه الحاسة الصحفية عند طه حسين، كما ذهب إلى ذلك في وصف الدكتور محمود عزمي2، على أن يكون الصحفي "من أعلم الناس بمصر، وبما يحدث فيها من الحوادث، ومن يضطرب فيها من الناس، وهو كذلك عالم حق العلم بطبيعة الحياة والأحياء في هذا البلد"3, فالصحفي لا يتصور "الأشياء من بعد، ولا ينتظر من الناس أكثر مما كان ينتظر منهم"4، وذلك أنه يجب أن يكون مقيمًا في قومه "يراهم كل يوم"، ويتحدث إليهم كل يوم، ويرى وقع الحوادث في نفوسهم، ويسمع تعبير ألسنتهم عن وقع هذه الحوادث، واضطراب أصواتهم بما تجد نفوسهم من لذَّةٍ وألم, ومن نعيم وبؤس, ومن سرور وحزن، ويحسُّ في أثناء هذا كله ما تخفيه الضمائر الخفية من رضى وسخط, ومن رجاء ويأس"5. والواقع أن هذه المكونات للحاسَّة الصحفية إنما تنبع من ذات طه حسين وصحافته، التي تقوم على هذه المقومات، وعلى هذه الحاسة الصحفية التي وصف بها صديقه, وهي الحاسة التي تكمن وراء نجاح المقال الرئيسي في صحافة طه حسين, وخاصة في المجال السياسي.

ثانيًا: أن طه حسين قد تمتَّع بحاسَّة تاريخية كذلك، استطاع عن طريقها ربط الماضي بالحاضر، والتكهن بالمستقبل، على أن هذه الحاسة تدعمها أيضًا ثقافة طه حسين التاريخية، التي تشكِّل عنصرًا هامًّا من عناصر ثقافته الصحفية، وإذا كانت معاهد الصحافة في العالم قد لاحظت أهمية هذا العنصر في ثقافة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015