تستطيع أن تنظم انكشافها تنظيمًا ملائمًا للحق والكرامة, فقد كان وزير الحقانية يؤيد القضاة كل التأييد، يعلن ذلك في مجلس النواب, ويؤكد ذلك في مجلس الوزراء، ويكتب في ذلك إلى رئيس محكمة الاستئناف, فما هي إلّا أن يردَّ عليه الرئيس ردَّه القاسي المعروف حتى يكشف عنه زملاؤه، ثم ينكشف هو عن القضاة، وإذا الناس يشيعون هم بالاستقالة، وإذا رئيس الوزراء يكذب هذه الإشاعة، وإذا هو يهيئ رده على رئيس الاستئناف، ثم ينتظر بهذا الرد أيامًا، ثم يقال: إن هذا الردَّ مُحِّصَ تمحيصًا، ونُقِّحَ تنقيحًا، وإذا قضية المعاشات تؤجَّل أشهرًا طوالًا, وتنقل إلى دائرة أخرى، ثم يرسل الوزير رده بعد الأناة والانتظار، ثم تَتَقَدَّمُ الوزارة إلى مجلس الشيوخ, فيعلن رئيس الوزراء أن المسألة ستحل بالمفاوضات, أي: كما رأت الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة.. إلخ"1.
ويخلص من استعراض هذه الشواهد وفق "نظام الأسباب"، بالنسبة للميدان الأول من ميادين الصراع بين القومية المصرية والتسلط الأجنبي، إلى نتيجة طبيعية لتسلسل الشواهد التي ساقها المقال، يقول:
"لم تظفر القومية المصرية إذن بشيء في هذا الميدان، لا لأن القضاة قصَّروا، ولا لأنَّ الأمة قصرت، ولا لأن الصحف قصَّرت، بل لأن الوزارة آثرت أن تتراجع، وأن تختار أيسر الأمرين، وأقلهما كلفة, وأبعدهما من الجهد والعناء، وأضمنهما للراحة والسلام وطول البقاء"2.
ثم ينتقل من هذه الخلاصة، إلى القسم الثاني من "المشكلة", مرتقيًا بمقاله تدريجيًّا إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، من خلال نظام الأسباب الذي يصل بين أجزاء المقال: "وأما في الميدان الثاني فمن حق القومية المصرية أيضًا أن تنتهي إلى ما تريد من غير حوار ولا جدال, ومن غير أخذ ولا رَدٍّ, وأكبر الظن أنها ستنتهي إلى ما تريد، لا لأن الوزارة ستثبت في الذَّوْد عنها أكثر مما ثبتت في الميدان الأول، بل لأنها ليست في حاجة إلى أن تؤيدها الوزارة، وإنما هي في حاجة إلى أن يؤيدها القضاة المصريون، ولم يعرف أحد عن القضاة المصريين إلى الآن أنهم بخلوا على قوميتهم بالنصر والتأييد مهما تكن الظروف. ذلك أن القوانين صريحة في أن لغة القومية المصرية إحدى اللغات الرسمية للمحاكم المختلطة، وقد أراد أحد المستشارين المصريين الأستاذ عبد السلام ذهني بك أن ينفِّذَ نص القانون، فكتب أحكامًا باللغة العربية، وليست هناك قوة تستطيع أن تحوِّلَ الأستاذ المستشار وزملاءه عن رأيهم إلّا أن تكون هناك قوة تستطيع أن تلقي القانون أو أن تغيِّرَه، أو أن تحمل القضاة على ألّا ينفذوه كاملًا.