المقال، ذلك أن أبعاد الرؤيا الإبداعية في مقال طه حسين، تظهر لنا أنه يدرك منهجه جملة وفي وضوح قبل الشروع في الكتابة والتحرير، وهو المنهج الذي يشبه ما قاله ابن طباطبا في وصف عملية الشعر على الطريقة العربية، إذ يقول: "فإذا أراد الشاعر بناء قصيدته مَحَّضَ المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعْمَلَ فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يلعق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات, وفَّقَ بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتَّتَ منها.. ويسلك الشاعر منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولًا كفصول الرسائل"1، وإذا صحَّ هذا المنهج في الشعر فإنه من باب أولى يصدق على منهج تحرير المقال، وهو الأمر الذي يضمن للمقال وحدة محكمة بين عناصره، صادرة عن ناحية وحدة الموضوع ووحدة الفكرة، ووحدة الشواهد التي يتضمنها، ذلك أن المقال الصحفي ليس مجرَّدَ سرد للحقائق, ولكنه وسيلة وظيفية للتعبير عن الرأي أو المذهب، أي: أن الوحدة في المقال الصحفي تقضي بها طبيعة الموضوع ووحدة الأثر الوظيفي الناتج عنه، الأمر الذي يفرض معالجة تحريرية يظهر بها المقال كأن له وحدة مستقلة بذاتها، وتقتضي هذه الوحدة استيفاء كل شاهد من شواهد المقال, وكل فكرة من أفكاره في موضعها المحدَّد لها من بنيته، قبل الانتقال إلى الشاهد التالي أو الفكرة التالية؛ وهو الأمر الذي يتوفَّر في مقال طه حسين، لتمثُّله الترتيب الاستقرائي في بنية المقال، كما تَقَدَّمَ. ويتفق هذا الترتيب الاستقرائي لعناصر المقال الصحفي عند طه حسين، مع الترتيب الذي استقرأه الباحثون في الصحافة، كما يبين من النموذج التالي: