وثانية الظواهر الكونية الكبيرة: الرمز الخالد على مصر.. يدل عليها، ويقترن اسمها به دائمًا، لأنها قطعة منه.. إنه هذا النهر العبقري الذي لا نظير له بين أنهار العالم جميعًا من طوله، وانتظام فيضانه، واستقامة مجراه، عرف المصريون فضله عليهم، ومكانه منهم, فقدَّسه قدماؤهم، كما فعلوا مع الشمس1، وأخذ المصريون عن النيل دأبه ومثابرته ووفاءه ونزوعه المستمر إلى البناء والنفع والخير بلا تفريق، بل أخذوا عنه خصلةً تكاد تكون من أمهات خصالهم, وهي النزوع الدائم إلى الوحدة القومية, على نحو ما نجد في مقال طه حسين، كما نجده في نزوع المصريين إلى التوحُّد منذ جعلوا من "أوزوريس" رمزًا للخير والعلم والنفع.
وإلى جانب هذه السمة البارزة المكتَسَبة من النيل، سمة النزوع الأبدي إلى الاتحاد القومي، نجد مقومًا آخر لا يقل عنها خطرًا, هو أن اختيار النيل لمجراه بين هاتين الصحراويين العظيمتين الشاسعتين جعل الموطن المصري يحتفظ بأهله، وجعل الجاذبية البشرية إلى الداخل، الأمر الذي يدفع بالعناصر التي تفد إليه، تنطبع إذا استقرّت بالطابع المصري، فـ"التمصير" صفة أساسية من صفات البيئة المصرية التي لا تقاوم, والنيل هو الذي علَّمَ المصريين فلاحة الأرض، ونظمها لهم مواسم ري وبذور وحصاد، وعلى ضفافه نبتت آلة الحضارة الأولى, وهي ورق البردي، وأقلام القصب، فكتب المصريون، ووصلوا بين آحادهم، وسجلوا أعمالهم، وثبتوا تصرفاتهم ونظموا أملاكهم، وربطوا بين الجيل الشاخص والجيل الذي سبقه والجيل الذي يكر بعده، فتواصلت المعرفة وانتظمت الحياة, وكانت خلة "الاستمرار" المتجدد أبدًا ميزة من ميزات النيل التي لا تعد, فكانت مصر أمينة على تراثها، ولم تكن سلفية خالصة ولا ثابتة جامدة، ولا رجعية تستقبل الحياة بظهرها، وإنما كانت مستأنية في تطوّرها، مثلها في ذلك نيلها في حركته الدائبة في أناة، وإذا وضع في طريقها حاجز ضخم فعلت به ما يفعل النيل، فسارت فيه أو حطمته، وهذه الصفة: "الاستمرارية" هي التي تميز عناصر الأصالة وعناصر التجديد في مقال طه حسين، على النحو الذي سندرسه فيما بعد2, وهي العناصر التي تتمثَّل كذلك الظاهرة الثالثة في مصر، والتي جعلتها تميل إلى الاستقرار, وإن لم تعزلها عن العالم حولها، وهذه الظاهرة هي الصحراء التي تمتد عن يمين النيل وعن شماله، والتي أسبغت على الوطن المصري صفحة المحافظة على التراث المادي الشاخص، وبفضل هذا الموقع أصبح الوطن المصري نقطة الارتكاز في العالم العربي. كما اتصل العقل المصري بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى،