اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع، في الفن والسياسة والاقتصاد1, وكان اليونان في عصورهم الأولى، يرون أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها الرفيعة بنوع خاص2.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن القول بأن البيئة المصرية أصلح البيئات لنشأة فن المقال، ونموه وازدهاره، قول لا يصدر عن نعرة قومية، بقدر ما تكون دوافعه من طبيعة هذه البيئة ومقوماتها أساس كل اعتبار، فالمصريون من أشد الناس اهتمامًا بالسياسة وتتبعها واستطلاع أخبارها وماجرياتها، والبصر بمداخلها ومخارجها، وكانوا منذ القديم من أشد الأمم شغفًا بأحاديث الدول, وعنايةً باستطلاع الحكومات، وقد يسري بينهم شعور ملهم بدخائل الأغراض الخفية, واتجاه الخير واتجاه الشر في الخصومات السياسية، لما تعاقب عليهم من التجارب, وتوالى على أسماعهم من أحاديث الصاعدين والهابطين والمقبلين والمدبرين3. وفي هذا الميل القديم ما يهيئ البيئة المصرية حين تقبل المطبعة لتحدث ثورتها في الاتصال بالجماهير. إلى تَقَبُّل الفنون الصحفية وإنهاضها وإنمائها، وفقًا لفطرة أصيلة من موروثات الحضارة القديمة فيها.
وفي هذه البيئة المصرية نتلمس عناصر الأصالة في فن المقال الصحفي بصفة عامة، وعند طه حسين على نحوٍ أخصٍّ فيما بعد، في رافدين كبيرين: أولهما الرافد المصري الذي لوَّنته البيئة المادية منذ عصر ما قبل الأُسَر إلى دخول العرب, وبقيت منه خصائص فيما صدر عن مصر الإسلامية إلى أوائل النهضة الحديثة. والرافد الثاني: عربي، يحمل في أعطافه خصائص الأدب العربي من ناحية, وبعض المأثورات من الحضارات التي مَدَّ الإسلام عليها سلطانه من ناحية أخرى, ولقد "تمصَّرت" هذه العناصر كلها حتى اتضحت في عصر النهضة الصحفية الحديثة, وما صدر عنها من آثار مقالية.
فإذا كان الوظيفة الاجتماعية هي التي تخلق مبررات ظهور الصحافة وقيامها على أداء تلك الوظيفة, فإن أوراق البردي التي اكتشفها "فلندر زبري", والتي يرجع تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد توضح مدى اهتمام المصريين القدماء بإثارة ميول القرّاء، وجذب انتباههم4. وإذا اختلف المؤرخون حول المكان الأصيل الذي نبتت فيه الصحافة أول مرة، وسايرت تطوّر الإنسان وتقدُّمه من البدائية إلى الاستقرار إلى التحضر، فإن ذلك لا يحول دون اتفاقهم