بزغ فجر الضمير من مصر -كما يقول المصرولوجي "جيمس هنري برستد"- قبل أن تتهيأ للمجتمعات الإنسانية الأخرى عوامل التجمع والاستقرار كأكمل ما تكون المجتمعات الراقية وحدة واتساقًا وتكاملًا.
وكان لطابع البيئة ما مهَّد للإنسان في مصر عوامل التجمع والوحدة الشاملة والاستقرار الدائم، ثم كانت هذه الحضارة الزاهرة التي سبقت حضارات العالم أجمع نتاج التفاعل الدائم بين البيئة والإنسان، فقد واتت الطبيعة هذه البيئة المصرية من العوامل ما جعلها مسرحًا صالحًا؛ لأن تثمر فيه جهود الإنسان في بعث حضارة وطيدة اتصلت حلقاتها، فاستطاعت أن تغالب الدهر وتبقى على الزمن وهي في مسارها لم تفقد يومًا صلتها بماضيها، واحتفظت بمقوماتها جلية بارزة1, وفي مقدمة هذه المقومات ثلاث ظواهر كونية كبيرة تصلح في ذاتها مجتمعة لتكون شارة أو رمزًا للوطن المصري, وهذه الظواهر الكونية الثلاث مرتبطة ومتفاعلة، وهي لا تبرز في موضع بروزها في هذا الموضع الفريد، في ملتقى القارات الثلاث، وعند مجمع البحرين وبين صحراوين، عظيمتين، في موقعها الفذِّ من أفريقية وبين أوربا وآسيا، تحرس مدخل البحر الأحمر، وتشارك في توجيه الحياة في البحر المتوسط، وتشعّ الحضارة إلى مدى بعيد في كل اتجاه2.
وأول هذه الظواهر الكونية الكبيرة الثلاث هي الشمس التي تكاد تبدو سافرة النهار بطوله على مدى العام، ولا ترمد عنها إلا قليلًا، ومن هنا قدَّسَها المصريون الأقدمون وقاسوا عليها فترات الزمن في اليوم، ومن السنة فصولًا محددة, وجعلوا من ذلك كله تقويمًا من أدق التقاويم، ثم فطنوا بعد ذلك إلى تأثيرها في الأشياء والأحياء وجعلوها رمز الحياة، وقبسوا منها الوضوح والبساطة، وعدم التعقيد، والنظام والاستقرار3، وهي الصفات التي تمثَّلَها طه حسين في مقاله الصحفي كما سيجيء، إلى جانب وظيفة "التقويم" الصحفي التي تميَّزَ بها، والتي تستمد من هذه الظاهرة الكونية التي اتخذها المصريون رمزًا "للضمير", وجعلوها "سفينة الملايين" تطل منها حين تميِّزُ بين الخير والشر فيما يصدر من الناس من أفعال وحركات, ولا يزال المصريون يتأثرون هذه الظاهرة الكونية في فطرتهم، وفي وجداناتهم وفي أخلاقهم، نراها حين يلقي الصغار بأسنانهم في عين "الشموسة", وفي غير ذلك من تصرفات يأتيها البعض.