أعظم خطرًا عندي من ذلك الخاتم وهذا الدبوس؟ وهل تعلم أنه يمتاز من ذلك الخاتم وهذا الدبوس بأن له في الحياة المصرية العامة آثارًا باقية، به أصبح قوم دكاترة، وبه أدرك قوم آخرون إجازة الليسانس، وبه صُرِّف كثير من أمور الدولة, وقُضِيَ في مصالح كثير من الأساتذة والطلاب أعوامًا، فحدِّثْنِي أين يقع من هذا كله أثر ذلك الخاتم وهذا الدبوس في حياة المصريين؟ ومع ذلك فلم تبلغ قيمته ألفًا ولا مائة، ولا عشرة من الجنيهات أستغفر الله، بل لم تبلغ قيمته عشرة من القروش، وإنما كانت قيمته قرشًا ونصف قرش ليس غير، اتخذته حين كانت الأشياء رخيصة في ذلك الزمن الذي كنا نستطيع أن نبلغ فيه بالقرش كثيرًا من المآرب والحاجات، اتخذته في باب الخلق وأنا خارج ذات يوم من دار الكتب، وكنت في الرابعة والعشرين من العمر، وكنت أريد أن أسافر إلى أوربا، وأظهر لي هذا السفر أني شخص من الأشخاص، يجب أن أذكر مولدي، وأعرف سني, وأقدِّر ما آتي من الأعمال، في ذلك الوقت بحثت عن شهادة الميلاد وكانت ضائعة, فعرفت سني وكنت أجهلها، وفي ذلك الوقت قيل لي أنَّ من أتى عملًا أو قال قولًا وجب عليه أن يمضيه، فاتخذت هذا الخاتم؛ صنعه لي رجل كان يصنع الخواتم قريبًا من المحافظة، ثم عبر معي البحر، وصحبني في فرنسا طالبًا، وصحبني في الجامعة أستاذًا, عمل معي أعمال الدولة، وأمضى معي عن أمور الدولة، وكان صديقًا أمينًا، لست أدري كيف قبلت فراقه حينًا، وائتمنت عليه صاحبي حتى أقبل ذات يوم ينبئني أنه افتقده فلم يجده، هنالك ضقت به وضقت بالناس، وضقت بالحياة كلها وقتًا غير قصير، ثم زعم لي زاعم أن الأمر يجب أن يرفع إلى الشرطة فرفع إليها، وهبط إلى الصحف، ولكن الشرطة تلقَّت أمره باسمة، ولكن الصحف نشرت أمره مداعبة، ولكن الأصدقاء تحدثوا عنه مازحين، أفرأيت أن قيم الأشياء تختلف لا باختلاف آثارها ومكانتها, ولكن باختلاف أصحابها، فلو كنت رئيس الوزراء لما ابتسم الشرطي, ولما داعبت الصحف لأني فقدت خاتمًا، ولكني لست رئيس الوزراء، فيبتسم الشرطي، ولا يأتي حركة، وتداعب الصحف، وتمزح أنت ويمزح هؤلاء بهذا وأمثاله، كنا نتحدث أيام العيد"1.
ومن ذلك يبين أن مادة الطرائف في اليوميات الصحفية عند طه حسين، تمتاز بقوة تنبع من الرؤيا الصحفية في مقاله، ومن أجل ذلك وجدنا في هذا النموذج، كل كلمة من الكلمات, أو عبارة من العبارات قادرة على المشاركة في موضوع اليوميات، مضيفة إليه أثرًا من الآثار التي تضفي على هذا الفن المقالي مغزى ودلالة. كما نلاحظ من هذا النموذج أن طه حسين لا يقدم كل ما يعرفه عن تفاصيل الموضوع، بل يكتفي بالإشارة عن العبارة، بحيث تبدو اليوميات