وفي هذه اليوميات، لم يعد أمام طه حسين مبَرِّرٌ لاستخدام ضمير الغائب، وهو لذلك يستخدم ضمير المتكلِّم في حديثه عن بعض ذكرياته التي تحدَّث عنها في الأيام من قبل، حين يتحدث عن ذكرياته في الأزهر مع صديقيه الزيات والزناتي في صراحة تامة1:
"هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح, وأقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازوَرَّ عني ازورارًا, ولكني واثق الآن بأني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلامًا يرضاها, وأبلغ من استحسانه ما أقصر عنه من غير شكٍّ لو أني صوَّرت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند "الكواكب" في عابدين"2.
كما نجد استخدام ضمير المتكلم أكثر صارحة وواقعية في يوميات طه حسين، حين يتحدث عن "أحاديث العيد"3, فهو لا يلتمس موضوعاته "في السماء حينًا، وفي السحاب حينًا، وبعيدًا عن حياته"4 ولكنه يتحدث إلى "نفسه وإلى أصدقائه في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجدّ وفيها الهزل"5 ومن ذلك قوله:
"ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشدّ هذه الأحاديث مرارة ولذعًا؛ لأني أعلم أن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم, وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق؛ لأني استعرضت صورًا تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكَّرت فيمن أزوره ويزورني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إليّ، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة، ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف ضئيل عند قوم آخرين"6.
وقوله:
"بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عَمَّا كنت أتحدث فيه إلى الناس, وعَمَّا كان الناس يتحدثون فيه إليَّ حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر, ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الأحياء! كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد, وما يحيط بغدوِّه ذلك من أسرار وأخبار، ومن تأويل وتعليل, ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت