وما أعطى مراقبًا فنه مراقبة شديدة، ولذلك كان أقل الناس حظًّا من رضى النقاد وثنائهم عليه كما يقول، ولكن ذلك لم يغيِّر من سيرته مع نفسه ومع الناس، فمضى في طريقه كما مضى "جيد" قدمًا "حتى أغضب القراء غضبًا، وأكرههم على قراءته إكراهًا، وحملهم على الإعجاب بفنه حملًا، وأظهر للنقاد أن الأديب الممتاز يستطيع أن يفرض نفسه على قرائه, سواء رضي النقاد أم سخطوا"1.
ومن أجل ذلك ينتقل في اليوميات من استعمال ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم مرَّةً أخرى، رغم أن هذه اليوميات تتضمَّن اعترافات بأمور يدرك إنكار "المثقفين" لها، ويعترف بها في صراحة صادقة، ومن ذلك، اليوميات التي يتمثَّل فيها عهد "الصبا" والإلمام به "بين حين وحين"2؛ لأنها -كما يقول- يتمثَّل فيها "حياة الكثرة المطلقة من المصريين, ويمتزج فيها بهذه الكثرة المطلقة، ويلغي فيها ما بينه وبين هذه الكثرة من الفروق، ويشعر فيها شعورًا قويًّا جدًّا بأنه واحد من هذه الملايين التي لا تحصى من المصريين منذ عرف المصريون أرض مصر وعاشوا"3. يقول طه حسين مستخدمًا ضمير المتكلم:
"هذا العهد الذي أحبه كلَّ الحب, وأبيح للمثقفين أن يسخروا مني لأني أحبه كل الحب، هو هذا الذي يتمثَّل حين يجتمع فريق من أهل القرى حول شيخ من مشايخ الطرق ليعقدوا مجلسًا من مجالس الذكر, وأنا أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع, وأعرف أيضًا ما يقول الأوربيون عن مجالس الذكر, ولكن ماذا تريد؟ إني أحب هذه المجالس وأجد فيها نفسي الضائعة، وأتمثَّل فيها مصريتي القديمة والجديدة والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذي أحب أن أجده دائمًا بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبي أن يدعو لي مجلس الذكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذكر الله كما تعودوا أن يذكروا، وعلى غناء المنشد في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تعودوا أن يستمعوا له, وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضمَّ إلى حلقتهم؛ فآتي ما يأتون من الحركات, وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرَبَ لما يطربون له من الغناء. قل ما شئت وتصوَّرْنِي كما أحببت، واحكم عليَّ بما تريد أن تحكم به، ولكني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذَّة ومتاعًا وشعورًا بالمصرية الخالصة"4.
ومن ذلك يبين أن طه حسين -كاتب اليوميات ليس منطويًا على نفسه،