"أندرية جيد"1, من حيث ارتسام شخصيته فيها كأوضح ما يمكن أن تكون، ومن حيث تناولها في كثير من الأحيان لجوانب من حياته, كما رأينا في المقال الاعترافي، ومن حيث أن هذه اليوميات تبرأ من تزيين كاتبها لشخصه المعنوي أمام الناس "كما يزينون أشخاصهم المادية حين يلقونهم. يقتصدون في ذلك حينًا، ويسرفون في ذلك أحيانًا، ولكنهم يتكلَّفُون على كل حال، ويظهرون نفوسهم كاسية لا عارية"2 وهو لذلك يعرض في يومياته عن هذا الصنيع إعراضًا تامًّا، "لا غشَّ فيه ولا محاولة للغش"3 لا لأنه أراد أن يكون صريحًا صادقًا، بل لأنه لم يستطع إلّا أن يكون صريحًا صادقًا"4, وخصلة الصراحة والصدق هي المقوِّم الأول في فن اليوميات الصحفية عند طه حسين5.
على أن هذه الخصلة لم تقيد بشيء إلا بقيود الفن، كنتيجة لإذاعة هذه اليوميات في الناس، وما يقتضيه ذلك من ظروف النظام والعرف بعد ذلك، كما يبين من استخدام ضمير الغائب في فصول الأيام، ولكنها مع ذلك تظهر الكاتب كما هو؛ لأنه توسَّلَ بضمير الغائب في إلغاء هذه القيود نفسها، فأقام من نفسه رقيبًا يلاحظ أدق الملاحظة ما كان يجري به قلمه في هذه اليوميات، وينبهه في سرعة وقوة إلى ما قد يدفعه الفن إليه من التكلُّف أحيانًا، ومن التفكير في الناس وفي أنهم قد يقرأون ما يكتب، فيرده إلى السذاجة والطبع، ويجرده من التكلُّف والزينة, ويضطره إلى ما ينبغي له "حين يخلو إلى نفسه من إرسال المزاج على سجيته"6 كما فعل صديقه "جيد", الذي تعوَّد مثله -من الناس، سخطهم وإنكارهم، ولذلك سقطت الفروق بين ما كان يكتب لنفسه، وما كان يكتب للناس، فجعل يكتب لتلك كما كان يكتب لأولئك، أو "جعل يكتب لأولئك كما يكتب لتلك. واستقام له طبعه الصادق الصريح في آثاره الخاصة والعامة"7.
ولم يتحرَّج طه حسين من نشر يومياته ومقالاته الاعترافية في الصحف والمجلات، كما لم يتحرَّج "جيد" من نشر بعض يومياته في "المجلة الفرنسية الجديدة، التي أنشأها مع جماعة من أصدقائه، ثم في أسفار صغار8، ثم لم يتحرَّج من نشرها كاملة في أجزاء، كما فعل طه حسين كذلك حين نشر فصوله الاعترافية في أجزاء، و"ما يدعوه إلى التحرُّجِ، وقد صارح الناس من أمره بالعظيم! فليصارحهم بما بقي من أمره، فلن يستطيعوا له ضرًّا, ولن يستطيعوا له نفعًا، وقد عوَّدَ نفسه الاستقلال التام؛ فهو لا ينتظر من الناس شيئًا، كما أنه لا يخاف منهم شيئًا"9.