"تبيان" ماهية الرجل الطبيعي للمجتمع الفاسد"1، على النحو الذي تصوره فصول "أُدِيب", إلى جانب فصول "الأيام"، حيث يخلق كثيرًا من المبرِّرَات ليتسلَّلَ من وراء صاحبه في تبيان المجتمع التقليدي، بالخيال المنطق حينًا, وبالوسائل حينًا آخر، يقول طه حسين: "والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدَّث عنِّي وعَمَّا أحبُّ, فكأنما أتحدث عن نفسي"2. ويبين تصوير طه حسين لموقفه من المجتمع التقليدي في نموذج "الأديب" الذي يكشف عن الصراع بين التقليد والتجديد في المجتمع المصري، ابن عمدة ميسور, أتمَّ تعليمه الثانوي, وعمل كاتبًا في إحدى الوزارات, ينفق نهاره في عمله, وليله في قراءة ما كان متاحًا من ألوان الثقافة آنذاك، ثم هو زوج سعيد بزوجته، مستقِرٌّ في بيته, ذلك على رابية فوق المدينة، لكنه "مضطرب ملتو، شديد الاضطراب والالتواء"3. يقول الأديب في رسالة إلى صاحبه:
"أشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعًا, وفرضت عليَّ هذا كله فرضًا، لأني لم أنشأ نشأة منظَّمة، ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مستقيمة مقررة، وإنما كانت حياتي كلها مضطربة أشد الاضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال, وتقف بي أحيانًا بين ذلك"4.
ومن ذلك يبين اضطراب النموذج بين مجتمعين: الأول تقليدي جامد, والآخر منطلق متحرر، يؤمن بالنظام والاضطراد، والعلم والفن والإنسانية. يقول "أديب" لصاحبه في إحدى رسائله:
"اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة, وستضيق بك الحياة, وستحسُّ اختناقًا, وسيتصبب جسمك عرقًا، وسيخَيَّلُ إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق"5.
ونخلص من ذلك إلى أن المقال الاعترافي جاء ثمرةً من ثمار ارتباط الكاتب بالحياة الواقعة في مصر، وصدامه مع الاتجاه التقليدي الجامد، بحيث يمكن القول أن هذا الفن المقالي مراقبة ذاتية عبر المجتمع المصري، فليس المقال الاعترافي حكمًا تعليمية، ولكنَّه من الوجهة الصحفية تهيئة لفنٍّ مقالي جديد هو "فن اليوميات الصحفية" التي تهدف أساسًا إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين؛ الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوبٍ يتَّسِمُ بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك.