ما كان الأب يرسله للفتى -أثناء بعثته- من مال قليل، وطلاب الأزهر وشيوخه جميعًا قد أصابتهم الآفات في نفوسهم أو عقولهم أو خلقهم. ولا يتعاطف طه حسين إلّا مع نوعَيْن من الشخصيات التي يرى فيها ثورة على المجتمع التقليدي، وهؤلاء هم الذين قُدِّرَ لهم أن يلعبوا أهم الأدوار في حياته العقلية والعامة، وأهمهم: الشيخ سيد المرصفي, ولطفي السيد, كما تَقَدَّمَ، أحدهما يذكِّرُه بأئمة البصرة والكوفة، والآخر يذكِّرُه بفلاسفة اليونان"1.
أما النوع الآخر فيتمثَّل في ضحايا المجتمع التقليدي الجامد المتخلِّف الذي أفقده بصره، فَقَدَ هو عينيه، وبسببه أيضًا "فقدت أخته الصغرى حياتها"2. كانت "خفيفة الروح, طلقة الوجه, فصيحة اللسان, عذبة الحديث, قوية الخيال". مرضت عِدَّةَ أيام دون أن يعنى بها أحد, "فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرَّع، ومن غريب الأمر أن أحدًا من هؤلاء لم يفكِّرْ في الطبيب"3, وكأنما كان موت الأخ الشاب بعدها هو عقاب هذه الأسرة التي تنمذج لمجتمع التقليدي في "علمه الآثم", وبموته الفاجع تغيَّرَت نفسية الفتى تغيرًا تامًّا، عرف الله حقًّا, وحرص على التقرُّب إليه، كما أظهر تعاطفه مع هذا الأخ وهذه الأخت احتجاجًا على هذا المجتمع الجامد الفقير الجاهل من الناحية الأخرى.
ويقوم بناء المقال الاعترافي عند طه حسين على الحرية في المزج بين الرواية والسيرة الذاتية والاستبطانية، ويبدو جانب الرواية، بمعنى تتابع الفصول حسب منطقٍ فنيٍّ لا يلتزم سرد الأحداث في تتابعها الزمني أو المكاني, بل حسب تتابعها في وعي الفتى كما تصل إليه، يبدو هذا الجانب واضحًا في فصول الجزء الأول، وتبدو حركة الجماعة وراءه راكدة ساكنة، وفي الجزء الثاني يزداد نصيب صفحات السيرة، وتخضع لنوع من التتابع الزمني, ويتضح هذا أكثر في الجزء الثالث حين تعنف الحركة ويسرع الإيقاع، ولا يعود الفتى -وقد أصبح شابًّا- يخلوا إلى نفسه كثيرًا، إنما عليه أن يلاحق مشكلات حياته هذه الجديدة. من الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى فرنسا, مرة بعد مرة، وعليه أن يحقِّقَ أن ما كان امتيازًا ممنوحًا له بحكم عاهته، يجب أن يتحوَّل إلى امتياز وتفوق4.
على أن هذا البناء الاعترافي الجديد، يتيح له، كما أتاح لروسُّو