"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجازٌ يا بُنَيَّ في كل أمر تَجَاوَزَ حدَّه حتى أصبح لا يُطاق, ألم تسمع قول الشاعر:
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ... ولكن كفيض النفس عند امتناعها
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعية لا تمتلئ, وآنية لا تفيض.
قال الأستاذ الشيخ مبتسمًا: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى: خزائن الأغنياء التي مهما يُصَبُّ فيها من المال فهي ناقصة، وجَهَنَّمُ التي يُقَالُ لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ وعقول العلماء التي لا تبلغ حظًّا من المعرفة إلّا طمِعَت في أكثر منه.
"قال الأستاذ الشيخ ضاحكًا: لقد أصبحت حكيمًا منذ اليوم, ولكن تعلَّم أن إناء واحدًا قد يفيض، فيصبح مضربًا للأمثال، ومصدرًا للعِبَرِ، وبعد الأثر في حياة الأجيال, ألا تذكر سيل العرم!! "1.
ولكن في حين أن الرياضي يحوِّلُ صيغة الرياضة أمام عيوننا، ويقودنا إلى النتيجة التي يريدها بسلسلة متتابعة من القضايا التي تظل بديهية على الدوام، نجد طه حسين يحذف القضايا المتوسطة، ويستعيض عن القضية التي لم يقم البرهان على صدقها بالحقيقة التي تتضمنها "صحائح الأنباء", وعن القضية التي لم يبرهن على فسادها بالتناقض المنطقيّ الذي كانت تخفيه: غير أن هذه الاستعاضات الفورية للمعاني, وهذه الطريقة غير المتوقَّعة في إرجاع القضايا إلى حقائق بديهية، وإلى ضروب من التناقض تثير عقل القارئ الذي يذهب إلى أن الآراء العسيرة قد أصبحت حقائق بديهية يسيرة. وهذا مصدر الوظيفية الهادفة في مقال طه حسين، فقد استطاع أن يتجاوز الرمز في تحقيق وظائف المقال بصفات الوضوح، والسرعة التي يتميز بها أسلوبه في النقد اللاذع، فكل قصة أو حدث أو نادرة أو نبأ أو استشهاد بالشعر يشبه أن يكون تجربة حضرت تحضيرًا جيدًا، تؤدي إلى مضمون المقال, أو الخطأ الذي يكْمُن في أحد الآراء المجردة، ويؤلِّفُ العمود الصحفي عند طه حسين بين الحوادث الصغيرة الدالة بحيث تبرز منها الفكرة العامة بوضوح تام, ولعل مصدر ذلك أن العمود الصحفي في مقاله مؤلف بدقة رياضية من حيث الخطة والأسلوب, تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب جميعًا، في تصوير: "مرايا يمكن أن يرى الناس فيها أنفسهم, وليس عليهم ولا عليّ من ذلك بأس, فما أكثر ما نرى