العمود، فهما يقومان منه مقام الطرف الضئيل النحيل الرشيق من نصل السهم. فإذا كان المقال مثلوم الحدِّ كليلًا لا يقطَعُ إلا بعد جَهْدٍ, ولا ينْفُذُ إلا بعد مشقة، فليس من هذا الفن في شيء1. وفي أدبنا العربي صور شعرية تحقق هذه الخصال في شعر بشَّار وحمَّاد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد2. وفي عمود طه حسين صور مقالية تحقِّقُ هذه الخصال، منها3:
"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم تر إلى فلان يطالب بالجلاء السريع -متى وضعت الحرب أوزارها- إلى أوربا!
"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إلى أن يلي الحكم أو يشارك فيه"4.
ونماذج هذه الخصال المرهفة الرقيقة في عمود طه حسين عديدة تزدحم بها مقالات "جنة الشوك", متميزة بالخِفَّةِ والحِدَّةِ، نذكر منها أيضًا5:
"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يرى آراء المسرفين من أهل الشمال، ويسير مسيرة المسرفين من أهل اليمين؟
"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه له عقل الحر وأخلاق العبيد"6.
ومن ذلك تبين السخرية الوظيفية التي تخضع للعقل والإرادة والذوق جميعًا، في عمود طه حسين، متميزة بالقصر والخِفَّةِ والحِدَّةِ، ليكون العمود الصحفي سريع الانتقال, يسير الفهم, كثير الدوران على ألسنة الناس, يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدِّثُ في بعض الحديث, أو الكاتب في بعض ما يكتب, أو المحاضر في بعض ما يحاضر، ثم ليكون مجتذبًا للقارئين بما فيه من عناصر الخِفَّةِ والحِدَّةِ والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردَّهم عَمَّا يريد أن يردهم عنه من الشر "في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف"7.
على أن هذه الخصائص في عمود طه حسين، تجعل من المقال الصحفي فنًّا تطبيقيًّا وليس فنًّا تجريديًّا، لأنه لا يُقْصَدُ لذاته، وإنما يهدِفُ إلى تحقيق غايات معينة، ويؤدي وظائف محددة8. ومن أجل ذلك تتعاون فيه الإرادة والعقل والذوق والقلب تعاونًا صحيحًا9، لأداء وظائف التوجيه والنقد