أو تصوير دقيق لشيء يُكْرَه أو يُحَبُّ. وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكر وإلى رؤية وتأمُّل، ولا يأتي مستجيبًا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة1، وإنما يقصد الكاتب العمودي إلى عمله وإنشائه، ويستعد لتجويده والتأنق فيه2. وأثر القلب فيه -كما يقول طه حسين كذلك- أنه يفيض عليه شيئًا من حرارته وحياته، ويجري فيه روحًا من قوته التي يجدها عندما يُقْبِلُ على الخير, أو عندما يَنْفِرُ من الشرِّ، عندما يرضى، وعندما يسخط3.
فالمعنى في العمود الصحفي -عند طه حسين- يتعاون القلب والإرادة والعقل والذوق على إنشائه، ونماذج هذا التعاون الصحيح في "جنة الشوك" عديدة، نذكر منها مقالًا بعنوان "ذاكرة"4.
"قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلّا كهذه اللوحات السود التي توضع للطلاب والتلاميذ في غرفات الدرس وحجراته, يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلة للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئًا ولا تمتنع على شيء.
"قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجِّل التاريخ من أعمال الناس, ومن وراء هذه وتلك كتابٌ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يُسْأَلُ أصحابها عنها يوم لا تنفع خُلَّةٌ ولا شفاعة, فأضعف الناس عقلًا, وأوهنهم عزمًا, وأكلُّهم حدًّا, هو الذي لا يحفل إلّا بلوحاتك السود. والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة، هو الذي يَحْفَلُ بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ. والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي، والنفس الزكية، فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحفظة فيه على الناس أعمالهم، لتعرض عليهم بين يدي الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة مما يقدرون"5.
ثم يمتاز العمود الصحفي عند طه حسين بخصلةٍ أخرى يصوِّرها2 على أن المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحادِّ, قد رُكِّبَ في سهمٍ رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرمية, ثم ينفذ منها في خِفَّةٍ وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَسُّ.
ومن هنا امتاز هذا الفن المقالي بالسطر الأخير أو السطرين الأخيرين من